ومما يدل على نسخ الآية المنساة، أى: انتهاء مدة التكليف بها قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أى نأت بخير من المنسية المنسوخة أو مثلها، فيكون قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها معبرا عن حالة تعرض في بعض ما سيرفع من القرآن وهي أن ينساه الناس لذهابه من قلوبهم، بعد أن يقضى الله بنسخه- كما ذكرنا-.
ووجه ذكر هذه الحال بوجه خاص، أن ما ينسى لعدم حضوره في الذهن لا تعرف الآيات التي تقوم مقامه، فربما يقع في الوهم أنه ذهب من غير أن ينزل من الآيات ما يغنى غناءه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ننسأها بالهمزة، من النساء وهو التأخير وعلى هذه القراءة يحمل النسخ في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ على النوعين السابقين وهما: نسخ الآية حكما فقط، ونسخها حكما وتلاوة.
ومعنى ننسأها تؤخر إنزالها إلى وقت ثان فلا ننزلها، وننزل ما يقوم مقامها في القيام بالمصلحة.
والخيرية والمماثلة في قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ترجع إلى ثواب العمل بها.
فقد يكون ثواب العمل بالناسخة أوفر من ثواب العمل بالمنسوخة قبل نسخها، وقد يكون مماثلا له، وإن كانت كل واحدة من الآيتين الناسخة والمنسوخة بالنظر إلى الوقت المقدر للعمل بها، أقوم على المصلحة من الأخرى.
وبعد أن أثبت- سبحانه- أن النسخ جائز وواقع بقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ساق جملة كريمة في صورة الاستفهام التقريرى، مخاطبا بها الأمة الإسلامية في شخص نبيها صلّى الله عليه وسلّم لتكون دليلا على هذا الثبوت، وهذه الجملة هي قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ والمعنى أن الله- تعالى- متمكن من أن يفعل ما يشاء على الوجه الذي تقتضيه حكمته وإرادته، ومن كان هذا شأنه فله أن يأمر في وقت بأمر، ثم ينسخه أو يستبدل به آخر لمقتضيات الظروف والأحوال.
ثم أقام- سبحانه- الدليل على كمال قدرته وشمولها لكل شيء فقال:
والمعنى: أنه- سبحانه- مالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية، وأنه هو المتصرف كما يشاء في ذواتها وأحوالها، وأنه يتصرف في أمورهم ويجريها على حسب ما يصلحهم، وهو أعلم بما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ وليس للناس من أحد يتولى أمورهم، ويعينهم على أعدائهم سواه، ومن كان الله وليه ونصيره علم يقينا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له في دنياه وأخراه.