للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفيه نظر أيضا، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة وَإِنْ جَنَحُوا ... وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية. فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص..» «١» .

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن كثير أرجح، لأن الآية الكريمة تقرر مبدأ عاما في معاملة الأعداء، وهو أنه من الجائز مهادنتهم ومسالمتهم ما دام ذلك في مصلحة المسلمين.

ولعل هذا هو ما قصده صاحب الكشاف بقوله عند تفسير الآية-: «والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم. وليس يحتم أن يقاتلوا أبدا. أو يجابوا إلى الهدنة أبدا» «٢» .

ثم أمن الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم من خداع أعدائه، إن هم أرادوا خيانته، وبيتوا له الغدر من وراء الجنوح إلى السلم فقال- تعالى-: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.

أى: وإن يرد هؤلاء الأعداء الذين جنحوا إلى السلم في الظاهر أن يخدعوك- يا محمد- لتكف عنهم حتى يستعدوا لمقاتلتك فلا تبال بخداعهم، بل صالحهم مع ذلك إذا كان في الصلح مصلحة للإسلام وأهله، ولا تخف منهم، فإن الله كافيك بنصره ومعونته، فهو- سبحانه- الذي أمدك بما أمدك به من وسائل النصر الظاهرة والخافية، وهو- سبحانه- الذي أيدك بالمؤمنين الذين هانت عليهم أنفسهم وأموالهم في سبيل إعزاز هذا الدين، وإعلاء كلمته..

فالآية الكريمة تشجيع للنبي صلى الله عليه وسلم على السير في طريق الصلح ما دام فيه مصلحة للإسلام وأهله، وتبشير له بأن النصر سيكون له حتى ولو أراد الأعداء بإظهار الميل إلى السلم المخادعة والمراوغة. وقوله: حَسْبَكَ صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل. أى. بحسبك وكافيك.

قال الفخر الرازي: فإن قيل: أليس قد قال- تعالى- وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ... أى: أظهر نقض ذلك العهد، وهذا يناقض ما ذكره في هذه الآية؟

قلنا: قوله: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير، إلا أنه لم تظهر أمارات على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة، بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسالمة وترك المنازعة..


(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٢٢.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>