وقوله: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ توبيخ لهم على جحودهم وكنودهم ومقابلتهم الحسنة بالسيئة.
ومعنى: نقموا: كرهوا وعابوا وأنكروا، يقال نقم منه الشيء إذا أنكره، وكرهه وعابه، وكذا إذا عاقبه عليه.
أى: وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام شيئا، إلا أنهم بسببه أغناهم الله ورسوله من فضله بالغنائم وغيرها من وجوه الخيرات التي كانوا لا يجدونها قبل حلول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بينهم.
وهذه الجملة الكريمة جاءت على الأسلوب الذي يسميه علماء البلاغة: تأكيد المدح بما يشبه الذم.
قال الجمل: كأنه قال- سبحانه- ليس له صلى الله عليه وسلم صفة تكره وتعاب، سوى أنه ترتب على قدومه إليهم وهجرته عندهم، إغناء الله إياهم بعد شدة الحاجة، وهذه ليست صفة ذم- بل هي صفة مدح- فحينئذ ليس له صفة تذم أصلا» «١» .
وشبيه بهذا الأسلوب قول الشاعر يمدح قوما بالشجاعة والإقدام.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بترغيبهم وترهيبهم فقال: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ..
أى: فإن يتب هؤلاء المنافقون عن نفاقهم وشقاقهم وقبائح أقوالهم وأفعالهم، يكن المتاب خيرا لهم في دنياهم وآخرتهم. «وإن يتولوا» ويعرضوا عن الحق: ويستمروا في ضلالهم «يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة» .
أما عذاب الدنيا فمن مظاهره: حذرهم وخوفهم من أن يطلع المؤمنون على أسرارهم وجبنهم عن مجابهة الحقائق، وشعورهم بالضعف أمام قوة المسلمين، وإحساسهم بالعزلة والمقاطعة من جانب المؤمنين ومعاقبة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بالعقوبة المناسبة لجرمهم..
وأما عذاب الآخرة، فهو أشد وأبقى، بسبب إصرارهم على النفاق، وإعراضهم عن دعوة الحق.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٠٠- بتصرف يسير-