للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويعجبني في هذا المقام قول فضيلة أستاذنا المرحوم الشيخ محمد عبد الله دراز: (يجب أن يفهم- أن تعديل الشريعة المتأخرة للمتقدمة- ليس نقضا لها، وإنما وقوفا بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدر.

مثل ذلك كمثل ثلاثة من الأطباء جاء أحدهم إلى الطفل في الطور الأول من حياته، فقصر غذاءه على اللبن، وجاء الثاني من مرحلته التالية فقرر له طعاما لينا، وطعاما نشويا خفيفا، وجاء الثالث في المرحلة التي بعدها فأمر له بغذاء قوى كامل.

لا ريب أن هاهنا اعترافا ضمنيا من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقا كل التوفيق في علاج الحالة التي عرضت عليه، نعم إن هناك قواعد صحية عامة في النظافة والتهوية والتدفئة ونحوها، لا تختلف باختلاف الأسنان فهذه لا تعديل فيها ولا تبديل، ولا يختلف فيها طب الأطفال والناشئين عن طب الكهول الناضجين.

هكذا الشرائع السماوية، كلها صدق وعدل في جملتها وتفصيلها، وكلها يصدق بعضها بعضا من ألفها إلى يائها، ولكن هذا التصديق على ضربين.

تصديق للقديم مع الإذن ببقائه واستمراره، وتصديق له مع إبقائه في حدود ظروفه الماضية، ذلك أن التشريعات السماوية تحتوى على نوعين من التشريعات.

(تشريعات خالدة) لا تتبدل بتبديل الأصقاع والأوضاع (كالوصايا التسع ونحوها) .

و (تشريعات موقوتة) بآجال طويلة أو قصيرة، فهذه تنتهي بانتهاء وقتها. وتجيء الشريعة التالية بما هو أوفق بالأوضاع الناشئة الطارئة.

فشريعة التوراة- مثلا- عنيت بوضع المبادئ الأولية لقانون السلوك (لا تقتل) .

(لا تسرق) فطابعها البارز تحديد الحقوق وطلب العدل والمساواة.

وشريعة الإنجيل تجيء بعدها فتقرر هذه الأمور، ثم تترقى فتزيد آدابا مكملة (أحسن إلى من أساء إليك) .

وأخيرا تجيء شريعة القرآن فتراها تقرر كلا المبدأين في نسق واحد إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ.

هكذا كانت الشرائع السماوية خطوات متصاعدة، ولبنات متراكمة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع. وكانت مهمة اللبنة الأخيرة منها أن أكملت البنيان وملأت ما بقي فيه من فراغ وأنها في الوقت نفسه كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء.

وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين صور الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير فقال: «مثلي

<<  <  ج: ص:  >  >>