للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أى: بعد هذا النصح الحكيم الذي وجهه نوح- عليه السلام- لقومه، رد عليه أغنياؤهم وسادتهم بقولهم ما نَراكَ يا نوح إلا بشرا مثلنا، أى: إلا إنسانا مثلنا، ليست فيك مزية تجعلك مختصا بالنبوة دوننا ...

فهم- لجهلهم وغبائهم- توهموا أن النبوة لا تجامع البشرية، مع أن الحكمة تقتضي أن يكون الرسول بشرا من جنس المرسل إليهم، حتى تتم فائدة التفاهم معه، والاقتداء به في أخلاقه وسلوكه.

وقد حكى القرآن قولهم هذا في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله- تعالى- وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ... «١» .

ثم إنهم في التعليل لعدم اتباع نبيهم لم يكتفوا بقولهم ما نراك إلا بشر مثلنا: بل أضافوا إلى ذلك قولهم: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ومرادهم بقولهم:

أَراذِلُنا أى فقراؤنا ومن لا وزن لهم فينا.

قال الجمل: ولفظ أَراذِلُنا فيه وجهان: أحدهما أنه جمع الجمع فهو جمع أرذل- بضم الذال- جمع رذل- بسكونها- نحو كلب وأكلب وأكالب ...

ثانيهما: انه جمع مفرد وهو أرذل كأكبر وأكابر.. والأرذل هو المرغوب عنه لرداءته» «٢» .

ومرادهم بقولهم: بادِيَ الرَّأْيِ أى: أوله من البدء. يقال: بدأ يبدأ إذا فعل الشيء أولا وعليه تكون الياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها ويؤيده قراءة أبى عمرو «بادئ الرأى» .

أى: وما نراك اتبعك يا نوح إلا الذين هم أقلنا شأنا وأحقرنا حالا من غير أن يتثبتوا من حقيقة أمرك، ولو تثبتوا وتفكروا ما اتبعوك ويصح أن يكون مرادهم بقولهم بادِيَ الرَّأْيِ أى اتبعوك ظاهرا لا باطنا، ويكون لفظ بادِيَ من البدو بمعنى الظهور.

يقال: بدا الشيء يبدو بدوا وبدوءا وبداء أى ظهر وعليه يكون المعنى: وما نراك اتبعك يا نوح إلا الذين هم أهوننا أمرا، ومع ذلك فإن اتباعهم لك إنما هو في ظاهر أمرهم، أما بواطنهم فهي تدين بعقيدتنا.


(١) سورة المؤمنون الآية ٣٣، ٣٤.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٩١. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>