للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم عمم القرآن الكريم هذا التشريع على الأمة الإسلامية جميعها. فقال تعالى:

وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.

أى: وحيثما كنتم وأينما وجدتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم تلقاء المسجد الحرام ونحوه.

وقد جاءت هذه الجملة موجهة إلى الأمة قاطبة لدفع توهم أن يكون الخطاب في الأول خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأنه لما كان تحويل القبلة أمرا له خطره، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك آكد وأبلغ.

فالآية الكريمة فيها أمر لكل مسلّم أن يجعل الكعبة قبلة له، فيتوجه بصدره إلى ناحيتها وجهتها حال تأديته الصلاة لربه، سواء أكان المصلّى بالمدينة أم بمكة أو بغيرهما.

وفي ذكر المسجد الحرام دون الكعبة، ما يؤذن بكفالة مراعاة جهتها ولذلك لم يقع خلاف بين العلماء في أن الكعبة قبلة كل أفق. وأن من عاينها فرض عليه استقبالها ومن غاب عنها فعليه أن يستقبل جهتها. فإن خفيت عليه تحرى جهتها ما استطاع.

وقد سقنا في مطلع هذا البحث بعض الأحاديث الصحيحة التي صرحت بأن الصحابة عند ما بلغهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بالتحويل إلى الكعبة استداروا إليها وهم في صلاتهم فجعلوها قبلتهم.

ومما يشهد بقوة إيمانهم وعظيم امتثالهم لشرع الله ما جاء عن نويلة بنت مسلّم أنها قالت.

«صلينا الظهر- أو العصر- في مسجد بنى حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء- أى بيت المقدس- فصلينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال. والرجال مكان النساء. فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام. فحدثني رجل من بنى حارثة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أولئك رجال يؤمنون بالغيب» «١» .

ثم بينت الآية الكريمة أن أهل الكتاب يعلمون أن التحويل إلى الكعبة هو الحق الذي لا ريب فيه فقال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.

أى: وإن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة، وانصرافكم عن بيت المقدس، ليعلمون أن استقبالكم الكعبة حق لأن الذي أخبر به قد قامت الآيات البينات عندهم على أنه رسول من عند الله، أو أنه يصلّى إلى القبلتين، وما وقفوا من تحويل القبلة هذا الموقف إلا لعنادهم،


(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٩٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>