يوسف قد أكله الذئب، حتى ولو كنا صادقين في ذلك، لسوء ظنك بنا، وشدة محبتك له.
وهذه الجملة الكريمة توحى بكذبهم على أبيهم، وبمخادعتهم له، ويكاد المريب أن يقول خذوني- كما يقولون-.
ولكنهم لم يكتفوا بهذا التباكي وبهذا القول، بل أضافوا إلى ذلك تمويها آخر حكاه القرآن في قوله: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ... أى: بدم ذي كذب، فهو مصدر بتقدير مضافه، أو وصف الدم بالمصدر مبالغة، حتى لكأنه الكذب بعينه، والمصدر هنا بمعنى المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق، أى: بدم مكذوب.
والمعنى: وبعد أن ألقوا بيوسف في الجب، واحتفظوا بقميصه معهم، ووضعوا على هذا القميص دما مصطنعا ليس من جسم يوسف، وإنما من جسم شيء آخر قد يكون ظبيا وقد يكون خلافه.
وقال- سبحانه- عَلى قَمِيصِهِ للإشعار بأنه دم موضوع على ظاهر القميص وضعا متكلفا مصطنعا، ولو كان من أثر افتراس الذئب لصاحبه، لظهر التمزق والتخريق في القميص، ولتغلغل الدم في قطعة منه.
ولقد أدرك يعقوب- عليه السلام- من قسمات وجوههم، ومن دلائل حالهم، ومن نداء قلبه المفجوع أن يوسف لم يأكله الذئب، وأن هؤلاء المتباكين هم الذين دبروا له مكيدة ما، وأنهم قد اصطنعوا هذه الحيلة المكشوفة مخادعة له، ولذا جابههم بقوله: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً....
والتسويل: التسهيل والتزيين. يقال: سولت لفلان نفسه هذا الفعل أى زينته وحسنته له، وصورته له في صورة الشيء الحسن مع أنه قبيح.
أى: قال يعقوب لأبنائه بأسى ولوعة بعد أن فعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا: قال لهم ليس الأمر كما زعمتم من أن يوسف قد أكله الذئب، وإنما الحق أن نفوسكم الحاقدة عليه هي التي زينت لكم أن تفعلوا معه فعلا سيئا قبيحا، ستكشف الأيام عنه بإذن ربي ومشيئته.
ونكر الأمر في قوله: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً لاحتماله عدة أشياء مما يمكن أن يؤذوا به يوسف، كالقتل، أو التغريب، أو البيع في الأسواق لأنه لم يكن يعلم على سبيل اليقين ما فعلوه به.
وفي هذا التنكير والإبهام- أيضا- ما فيه من التهويل والتشنيع لما اقترفوه في حق أخيهم.