ببنيامين يشبه ما فعلوه بيوسف فقال: «بل سولت لكم أنفسكم أمرا ... » .
وقال بعض الناس: لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول، سحب حكم الأول عليه، وصح قوله «بل سولت لكم أنفسكم أمرا ... » .
والخلاصة أن الذي حمل يعقوب- عليه السلام- على هذا القول لهم، المفيد لتشككه في صدق ما أثبتوه لأنفسهم من البراءة، هو ماضيهم معه، فإنهم قد سبق لهم أن فجعوه في يوسف بعد أن عاهدوه على المحافظة عليه.
ولكن يعقوب هنا أضاف إلى هذه الجملة جملة أخرى تدل على قوة أمله في رحمة الله، وفي رجائه الذي لا يخيب في أن يجمع شمله بأبنائه جميعا فقال- عليه السلام- عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
أى: عسى الله- تعالى- أن يجمعني بأولادى جميعا- يوسف وبنيامين وروبيل الذي تخلف عنهم في مصر- إنه- سبحانه- هو العليم بحالي، الحكيم في كل ما يفعله ويقضى به.
وهذا القول من يعقوب- عليه السلام- يدل دلالة واضحة على كمال إيمانه، وحسن صلته بالله- تعالى- وقوة رجائه في كرمه وعطفه ولطفه- سبحانه-.
وكأنه بهذا القول يرى بنور الله الذي غرسه في قلبه، ما يراه غيره بحواسه وجوارحه.
ثم يصور- سبحانه- ما اعترى يعقوب من أحزانه على يوسف، جددها فراق بنيامين له فقال- تعالى- وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ، وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ.
وقوله «يا أسفا» من الأسف وهو أشد الحزن والتحسر على ما فات من أحداث. يقال:
أسف فلان على كذا يأسف أسفا، إذا حزن حزنا شديدا.
وألفه بدل من ياء المتكلم للتخفيف والأصل يا أسفى.
وكظيم بمعنى مكظوم، وهو الممتلئ بالحزن ولكنه يخفيه من الناس ولا يبديه لهم.
ومنه قوله- تعالى- وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أى: المخفين له، مأخوذ من كظم فلان السقاء: إذا سده على ما بداخله.
والمعنى: وبعد أن استمع يعقوب إلى ما قاله له أبناؤه، ورد عليهم ... انتابته الأحزان والهموم، وتجددت في قلبه الشجون ... فتركهم واعتزل مجلسهم وقال:
«يا أسفا على يوسف» أى: يا حزنى الشديد على يوسف أقبل فهذا أوان إقبالك.