للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفوسهم بالكفر، وانشرحت له صدورهم، واعتقدوا صحته، أنهم عليهم من الله- تعالى- غضب شديد لا يعلم مقداره إلا هو، ولهم يوم القيامة عذاب عظيم الهول، يتناسب مع عظيم جرمهم.

هذا، وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأخبار التي حكت ما تعرض له المسلمون الأولون من فتن وآلام. فقال ما ملخصه: ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالى إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال- رضى الله عنه- يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله، فيأبى عليهم وهو يقول: أحد، أحد، ويقول:

والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها «١» .

وقوله- سبحانه-: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ بيان للأسباب التي جعلتهم محل غضب الله ونقمته.

واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى كفرهم بعد إيمانهم، أو إلى ما توعدهم الله- تعالى- به من غضب عليهم، وعذاب عظيم لهم.

أى: ذلك الذي جعلهم يرتدون عن دينهم، ويكونون محل غضب الله ونقمته، من أسبابه أنهم آثروا الحياة الدنيا وشهواتها على الآخرة وما فيها من ثواب.

وَأَنَّ اللَّهَ- تعالى- لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى الصراط المستقيم، لأنهم حين زاغوا عن الحق أزاغ الله قلوبهم.

ثم أضاف- سبحانه- إلى رذائلهم رذيلة أخرى فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.

والطبع: الختم والوسم بطابع ونحوه على الشيء، لكي لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخل فيه ما هو خارج عنه. أى: أولئك الذين شرحوا صدورهم بالكفر، وطابوا به نفسا، قد طبع الله تعالى على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فصارت ممنوعة من وصول الحق إليها، وعاجزة عن الانتفاع به، وأولئك هم الكاملون في الغفلة والبلاهة، إذ لا غفلة أشد من غفلة المعرض عن عاقبة أمره، ولا بلاهة أفدح من بلاهة من آثر الفانية على الباقية.


(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>