وما أصدق قول قتادة- رضى الله عنه-: «تلك- والله- أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النفر» ، ثم انتقل صاحب الجنتين من غروره هذا إلى غرور أشد. حكاه القرآن في قوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً.
أى: أن هذا الكافر لم يكتف بتطاوله على صاحبه المؤمن، بل سار به نحو جنته حتى دخلها وهو ظالم لنفسه بسبب كفره وجحوده وغروره.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته، ماله جنة غيرها: يعنى أنه لا نصيب له في الجنة التي وعدها الله للمؤمنين، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما.
وقوله وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أى: وهو معجب بما أوتى مفتخر به، كافر لنعمة ربه، معرض بذلك نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم.. «١» .
وقوله: قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً أى: قال هذا الكافر لصاحبه: ما أظن أن هذه الجنة تفنى أو تهلك أبدا.
يقال: باد الشيء يبيد بيدا وبيودا: إذا هلك وفنى.
ثم ختم هذا الكافر محاورته لصاحبه بقوله: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أى: كائنة ومتحققة. فهو قد أنكر البعث وما يترتب عليه من حساب بعد إنكاره لفناء جنته، ثم أكد كلامه بجملة قسمية فقال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي أى: والله لئن رددت إلى ربي على سبيل الفرض والتقدير كما أخبرتنى يا صاحبي بأن هناك بعثا وحسابا لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها أى:
من هذه الجنة مُنْقَلَباً أى: مرجعا وعاقبة. اسم مكان من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشيء إلى غيره.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً.
وقوله- سبحانه-: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.
والمتدبر لحال صاحب الجنتين يراه، - أولا- قد زعم أن مدار التفاضل هو الثروة والعشيرة، ويراه- ثانيا- قد بنى حياته على الغرور والبطر، واعتقاد الخلود لزينة الحياة
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٨٤.