حتى إذا ساوى بين جانبي الجبلين بقطع الحديد، قال لهم: أوقدوا النار وانفخوا فيها بالكيران وما يشبهها لتسخين هذه القطع من الحديد وتليينها، ففعلوا ما أمرهم به، حتى صارت تلك القطع تشبه النار في حرارتها وهيئتها، قال أحضروا لي نحاسا مذابا، لكي أفرغه على تلك القطع من الحديد لتزداد صلابة ومتانة وقوة.
وبذلك يكون ذو القرنين قد لبى دعوة أولئك القوم في بناء السد. وبناه لهم بطريقة محكمة سليمة، اهتدى بها العقلاء في تقوية الحديد والمبانى في العصر الحديث.
وكان الداعي له لهذا العمل الضخم، الحيلولة بين هؤلاء القوم، وبين يأجوج ومأجوج الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ولقد أخبر القرآن الكريم بأن ذا القرنين بهذا العمل جعل يأجوج ومأجوج يقفون عاجزين أمام هذا السد الضخم المحكم فقال: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً.
أى: فما استطاع قوم يأجوج ومأجوج أن يرتفعوا على ظهر السد، أو يرقوا فوقه لملاسته وارتفاعه، وما استطاعوا- أيضا- أن يحدثوا فيه نقبا أو خرقا لصلابته ومتانته وثخانته.
ووقف ذو القرنين أمام هذا العمل العظيم، مظهرا الشكر لله- تعالى-، والعجز أمام قدرته- عز وجل- شأن الحكام الصادقين في إيمانهم، الشاكرين لخالقهم توفيقه إياهم لكل خير.
وقف ليقول بكل تواضع وخضوع لخالقه..: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.
أى: هذا الذي فعلته من بناء السد وغيره، أثر من آثار رحمة ربي التي وسعت كل شيء.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي الذي حدده لفناء هذه الدنيا ونهايتها، أو الذي حدده لخروجهم منه جَعَلَهُ دَكَّاءَ أى: جعل هذا السد أرضا مستوية، وصيره مدكوكا أى: بمساواة الأرض. ومنه قولهم: ناقة دكاء أى: لا سنام لها.
وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أى: وكان كل ما وعد الله- تعالى- به عباده من ثواب وعقاب وغيرهما، وعدا حقا لا يتخلف ولا يتبدل، كما قال- سبحانه-: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
وبذلك نرى في قصة ذي القرنين ما نرى من الدروس والعبر والعظات، التي من أبرزها.
أن التمكين في الأرض نعمة يهبها الله لمن يشاء من عباده. وأن السير في الأرض لإحقاق الحق وإبطال الباطل من صفات المؤمنين الصادقين، وأن الحاكم العادل من صفاته: ردع الظالمين عن ظلمهم، والإحسان إلى المستقيمين المقسطين، والعمل على ما يجعلهم يزدادون استقامة