للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والقول فيه أن قصد إبراهيم- عليه السلام- لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه، وإثباته لها على أسلوب تعريضي، يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم.

وهذا كما لو قال لك صاحبك، وقد كتبت كتابا بخط رشيق- وأنت شهير بحسن الخط-: أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمى لا يحسن الخط، ولا يقدر إلا على خربشة فاسدة- أى كتابة رديئة- فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب، تقرير أن هذه الكتابة لك. مع الاستهزاء به.. «١» .

وهذا التفسير للآية الكريمة من أن إبراهيم- عليه السلام- قد قال لقومه ما قال على سبيل الاستهزاء بهم، هو الذي تطمئن إليه قلوبنا، وقد تركنا أقوالا أخرى للمفسرين في معنى الآية، نظرا لضعف هذه الأقوال بالنسبة لهذا القول.

وقوله- سبحانه-: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ بيان للأثر الذي أحدثه رد إبراهيم- عليه السلام-.

أى: أنهم بعد أن قال لهم إبراهيم بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ، أخذوا في التفكر والتدبر، فرجعوا إلى أنفسهم باللوم، وقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون، حيث عبدتم مالا يستطيع الدفاع عن نفسه أو حيث تركتم آلهتكم بدون حراسة.

ولكن هذا الأثر، وهذا اللوم لأنفسهم، لم يلبث إلا قليلا حتى تبدد، بسبب استيلاء العناد والجحود عليهم، فقد صور القرآن حالهم بعد ذلك فقال: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ.

وقوله: نُكِسُوا فعل مبنى للمجهول من النكس، وهو قلب الشيء من حال إلى حال، وأصله: قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفله.

أى: ثم انقلبوا من لومهم لأنفسهم لعبادتهم لما لا يقدر على دفع الأذى عنه، إلى التصميم على كفرهم وضلالهم، فقالوا لإبراهيم على سبيل التهديد: لقد علمت أن هذه الأصنام لا تنطق، فكيف تأمرنا بسؤالها؟ إن أمرك هذا لنا لهو دليل على أنك تسخر بعقولنا، ونحن لن نقبل ذلك، وسننزل بك العقاب الذي تستحقه.

وقد شبه القرآن الكريم عودتهم إلى باطلهم وعنادهم، بعد رجوعهم إلى أنفسهم باللوم، شبه ذلك بالانتكاس، لأنهم بمجرد أى خطرت لهم الفكرة السليمة، أطفأوها بالتصميم على


(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٢٤. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>