أما الآية الأخرى التي تقول: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ أى: حيث أراد لها أن تجرى، فالمقصود منها الإخبار عن جربها بإذنه في غير حال عودته إلى مملكته، وبذلك أمكن الجمع بين الآيتين، إذ الجهة فيهما منفكة.
وقوله- تعالى-: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أى: وكنا بكل شيء يجرى في هذا الكون عالمين علما مطلقا لا كعلم غيرنا من خلقنا. فإنه علم محدود بما نشاؤه ونقدره.
فالجملة الكريمة بيان لإحاطة علم الله- تعالى- بكل شيء، والتنبيه بأن ما أعطاه الله- تعالى- لسليمان، إنما كان بإرادته- سبحانه- وعلمه.
وقوله- سبحانه-: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ بيان لمنة أخرى من المنن الكثيرة التي امتن بها- سبحانه- على عبده ونبيه سليمان.
ويغوصون من الغوص وهو النزول تحت الماء، ومنه الغواص الذي ينزل تحت الماء لاستخراج الجواهر وغيرها.
وقوله: مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ في محل نصب عطفا على معمول سَخَّرْنا، السابق.
أى: وسخرنا- أيضا- لسليمان من يغوص له، أى: لأجله، من الشياطين، فينزلون تحت مياه البحار ليستخرجوا له منها الجواهر النفيسة كاللؤلؤ والمرجان.
وفي التعبير بقوله: لَهُ إشعار بأن غوصهم لم يكن لمنفعة أنفسهم أو باختيارهم، وإنما هم كانوا يغوصون من أجل مصلحة سليمان- عليه السلام- وبأمره.
وقوله: وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أى: لم تكن مهمتهم الغوص فقط وإنما كان سليمان يسخرهم ويكلفهم بأعمال أخرى كثيرة كبناء المدائن والقصور وصنع التماثيل والمحاريب.. كما قال- تعالى-: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ، وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ، وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «١» .
فاسم الإشارة في قوله وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ يعود إلى الغوص أى: ويعملون له عملا كثيرا سوى ذلك الغوص.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أى: وكنا لهؤلاء الشياطين حافظين من أن يخرجوا عن طاعته. أو أن يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون له.
(١) سورة سبأ الآيتان ١٢، ١٣.