للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لإبراهيم عند ما رأوا منظر آلهتهم بهذه الصورة المفزعة لهم، مكتفيا بإبراز حالهم فيقول:

«فأقبلوا إليه يزفون» .

أى: فحين رأوا آلهتهم بهذه الصورة. أقبلوا نحو إبراهيم يسرعون الخطا ولهم جلية وضوضاء تدل على شدة غضبهم لما أصاب آلهتهم.

يقال: زفّ النعام يزفّ زفّا وزفيفا، إذا جرى بسرعة حتى لكأنه يطير.

ولم يأبه إبراهيم- عليه السلام- لهياج قومه، وإقبالهم نحوه بسرعة وغضب، بل رد عليهم ردا منطقيا سليما، فقال لهم: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ.

أى: قال لهم مؤبخا ومؤنبا: أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها وتقطعونها من الحجارة أو من الخشب بأيديكم، وتتركون عبادة الله- تعالى- الذي خلقكم وخلق الذي تعملونه من الأصنام وغيرها.

قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ «ما» في موضع نصب، أى: خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام، يعنى الخشب والحجارة وغيرها.

وقيل إن «ما» استفهام، ومعناه: التحقير لعملهم. وقيل: هي نفى أى: أنتم لا تعملون ذلك لكن الله خالقه والأحسن أن تكون «ما» مع الفعل مصدرا. والتقدير: والله خلقكم وعملكم، وهذا مذهب أهل السنة، أن الأفعال خلق لله- عز وجل- واكتساب للعباد.

وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله خالق كل صانع وصنعته» «١» .

ولكن هذا المنطق الرصين من إبراهيم، لم يجد أذنا واعية من قومه، بل قابلوا قوله هذا بالتهديد والوعيد الذي حكاه- سبحانه- في قوله: قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أى قالوا فيما بينهم: ابنوا لإبراهيم بنيانا، ثم املئوه بالنار المشتعلة، ثم ألقوا به فيها فتحرقه وتهلكه.

فالمراد بالجحيم: النار الشديدة التأجج. وكل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم، وهذا اللفظ مأخوذ من الجحمة وهي شدة التأجج والاتقاد- يقال: جحم فلان النار- كمنع- إذا أوقدها وأشعلها، واللام فيه عوض عن المضاف إليه- أى- ألقوه في جحيم ذلك البنيان المليء بالنار.

وبنوا البنيان، وأضرموه بالنار، وألقوا بإبراهيم فيها، فماذا كانت النتيجة؟


(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٩٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>