وقوله- تعالى-: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ....
استئناف مسوق لبيان آثار هذا القرآن الكريم في نفوس قارئيه وسامعيه بعد بيان أوصافه في ذاته.
وقوله «تقشعر» من الاقشعرار، وهو الانقباض الشديد للبدن. يقال: اقشعر جسد فلان، إذا انقبض جلده واهتز ... وهو هنا كناية عن الخوف الشديد من الله- تعالى-.
أى: أن هذا الكتاب العظيم عند ما يقرؤه أو يسمعه المؤمنون الصادقون الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم من شدة ما اشتمل عليه من زواجر ونذر. ثم تلين جلودهم وقلوبهم إذا ما قرءوا أو استمعوا إلى آيات الرحمة والمغفرة.
قال الجمل: «فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أولا ثم قرنت القلوب بها ثانيا؟.
قلت: ذكر الخشية التي تحملها القلوب مستلزم لذكر القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم وتخشى قلوبهم في أول الأمر، فإذا ذكروا الله- تعالى- وذكروا رحمته وسعتها، استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة لينا في جلودهم.. «١» .
والخلاصة أن من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين، أنهم يجمعون عند قراءتهم أو سماعهم للقرآن الكريم بين الخوف والرجاء، الخوف من عذاب الله- تعالى- والرجاء في رحمته ومغفرته، إذ أن اقشعرار الجلود كناية عن الخوف الشديد، ولين الجلود والقلوب كناية عن السرور والارتياح، وعدى الفعل «تلين» بإلى لتضمينه معنى تسكن وتطمئن.
ومفعول «ذكر الله» محذوف للعلم به، أى: ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله رحمته وثوابه وجنته.
قال ابن كثير ما ملخصه: هؤلاء المؤمنون يخالفون غيرهم من وجوه:
أحدها: أن سماع هؤلاء تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات.
الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم، ولم يكونوا- كغيرهم- متشاغلين لاهين عنها.
الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها ... ولم يكونوا يتصارخون ويتكلفون ما ليس فيهم.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٩٨.