قال صاحب الكشاف: أقسم- سبحانه- بالكتاب المبين وهو القرآن وجعل قوله:
إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا جوابا للقسم، وهو من الأيمان الحسنة البديعة، لتناسب القسم والمقسم عليه، وكونهما من واد واحد.. والْمُبِينِ أى: البين الذي أنزل بلغتهم وأساليبهم.. «١» .
فقوله- تعالى-: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ بيان للحكمة التي من أجلها أنزل الله- تعالى- هذا القرآن بلسان عربي مبين. أى: جعلناه كذلك رجاء أن تعقلوا وتفهموا أوامره ونواهيه، وتوجيهاته وإرشاداته.
ثم بين- سبحانه- المنزلة السامية التي جعلها لهذا القرآن، والصيانة التامة التي أحاطه بها فقال: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ.
والمراد بأم الكتاب: اللوح المحفوظ، وسمى بذلك لأن جميع الكتب السماوية منقولة عنه.
كما قال- تعالى-: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.
وقيل: المراد بأم الكتاب: علمه الأزلى- عز وجل-.
أى: وإن هذا القرآن المبين لثابت، وكائن في اللوح المحفوظ، وهو لَدَيْنا أى:
عندنا لَعَلِيٌّ أى: لرفيع الشأن، عظيم القدر حَكِيمٌ أى: محكم النظم في أعلى طبقات البلاغة. فلا يضيره تكذيب المكذبين، ولا طعن الطاعنين.
فالآية الكريمة تدل دلالة واضحة على القيمة العظيمة التي جعلها- سبحانه- لهذا القرآن، في علمه- تعالى- وتقديره، كما أن وصف هذا الكتاب بقوله لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ يؤكد هذه المنزلة السامية ويقررها.
وبعد هذا البيان المشرف للقرآن الكريم، أتبع- سبحانه- ذلك بالكشف عن مدى الإسراف القبيح الذي ارتكبه المشركون حين أعرضوا عنه فقال- تعالى-: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً، أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ.
والهمزة للاستفهام الإنكارى، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، والضرب هنا: بمعنى التنحي والابتعاد والإهمال، تقول: ضربت عن فلان صفحا، إذا أعرضت عنه وتركته، والصفح: مصدر صفحت عنه، إذا أعرضت عنه، وذلك بأن تعطيه صفحة وجهك أى:
جانبه. وهو منصوب لنضرب من غير لفظه، كما في قولهم: قعدت جلوسا. أو على الحال من الفاعل: على المصدرية أى: صافحين.
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٤٦.