وقوله- سبحانه-: يَغْشَى النَّاسَ صفة ثانية للدخان، والمراد بهم كفار مكة وأمثالهم ممن أصابه الجوع والبلاء.
أى: ارتقب- أيها الرسول الكريم- يوم تأتى السماء لهؤلاء المشركين بعذاب من صفاته أنه عذاب واضح، يحسونه بحواسهم، ويشعرون به شعورا جليا، ومن صفاته كذلك أنه يحيط بهم من كل جوانبهم، ويجعلهم يتضرعون إلينا ويقولون: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أى: شديد ألمه، وعظيم هوله.
ثم يقولون- أيضا-: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أى: يا ربنا أزل عنا هذا العذاب المتمثل في الجوع والمرض وغيرهما، فإنك إن رفعت عنا ذلك آمنا برسولك صلّى الله عليه وسلّم، واتبعنا دعوته، ولكنهم بعد أن كشف الله- تعالى- عنهم هذا العذاب، نقضوا عهودهم، وأصروا على كفرهم.
ولذا عقب الله- تعالى- على تضرعهم هذا بقوله: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى.. أى: كيف يتأتى لهم التذكر والاعتبار والاتعاظ ...
والحال أنهم قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، الذي لم يترك بابا من أبواب الخير إلا وأرشدهم إليه، ولم يترك وسيلة من وسائل الهداية إلا وسلكها معهم..
ولكنهم استحبوا العمى على الهدى، ولذا أكد القرآن ذلك فقال: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ.
أى: كيف يتعظون والحال أنه قد جاءهم رسول عظيم الشأن، وضح الحق أكمل توضيح.
فما كان منهم بعد أن استمعوا إليه، إلا الإعراض عن دعوته، ولم يكتفوا بهذا الإعراض والصدود، بل قالوا في شأنه بجهالة وسوء أدب: مُعَلَّمٌ أى: إنسان يعلمه غيره من البشر، وقالوا في شأنه- أيضا- مَجْنُونٌ أى: مختلط في عقله.
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله عليهم، ورحمته بهم، فقال: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ.
أى: إنا بفضلنا ورحمتنا كاشفو العذاب عنكم كشفا قليلا- أيها المشركون-، ولكنكم لم تقابلوا فضلنا عليكم، ورحمتنا بكم، بالشكر والطاعة بل قابلتم ذلك بالإصرار على الكفر، والثبات على الجحود.
فالمراد بقوله- تعالى- إِنَّكُمْ عائِدُونَ: عزمهم وإصرارهم على الاستمرار على الكفر، لأنهم لم يوجد منهم إيمان، حتى يتركوه ويعودوا إلى الكفر، وإنما الذي وجد منهم هو