للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والإصرار على الشيء: ملازمته، وعدم الانفكاك عنه، مأخوذ من الصر- بفتح الصاد- وهو الشد، ومنه صرة الدراهم، لأنها مشدودة على ما بداخلها.

قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى ثُمَّ في قوله: ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً؟

قلت: كمعناه في قول القائل، يرى غمرات الموت ثم يزورها.

وذلك أن غمرات الموت خليقة بأن ينجو رائيها بنفسه، ويطلب الفرار عنها.

وأما زيارتها والإقدام على مزاولتها، فأمر مستبعد، فمعنى ثُمَّ: الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعد ما رآها وعاينها، شيء يستبعد في الغايات والطباع.

وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق، من تليت عليه وسمعها: كان مستبعدا في العقول إصراره على الضلالة عندها، واستكباره عن الإيمان بها «١» .

وقوله- تعالى-: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ تهكم بهذا الأفاك الأثيم.. واستهزاء به، لأن البشارة في الأصل إنما تكون من أجل الخبر السار، الذي تتهلل له البشرة.

أى: فبشره بعذاب أليم، بسبب إصراره على كفره، واستحبابه العمى على الهدى.

ثم بين- سبحانه- صفة أخرى من صفات هذا الأفاك الأثيم فقال: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً.

أى: وإذا بلغ هذا الإنسان شيء من آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، بادر إلى الاستهزاء بها والسخرية منها، ولم يكتف بالاستهزاء بما سمعه، بل استهزأ بالآيات كلها لرسوخه في الكفر والجحود.

والتعبير بقوله: وَإِذا عَلِمَ زيادة في تحقيره وتجهيله، لأن اتخاذه الآيات هزوا بعد علمه بمصدرها، يدل على إيغاله في العناد والضلال.

وقوله: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ بيان لسوء عاقبته. أى: أولئك الذين يفعلون ذلك لهم في الآخرة عذاب يهينهم ويذلهم، ويجعلهم محل سخرية العقلاء واحتقارهم. مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أى: من قدامهم جهنم لأنهم يوجهون إليها بعد موتهم، أو هي من خلفهم لأنهم معرضون عنها، ومهملون لما يبعدهم عن دخولها.

والوراء: اسم يستعمل بمعنى الأمام والخلف، لأنه يطلق على الجهة التي يواريها الشخص، فتعم الخلف والأمام.


(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٨٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>