قال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ويقال: هو قاسط إذا جار وظلم. قال- تعالى-: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً.
أى: ذلكم الذي شرعناه لكم في أمر الديون من الكتابة والإشهاد وغيرهما أعدل في علم الله- تعالى-، وكل ما كان كذلك فهو الأعدل والأفضل والأحكم في ذاته، لأنه- سبحانه- هو الأعلم بما فيه مصلحتكم فاستجيبوا له، وتلك هي الفائدة الأولى.
أما الفائدة الثانية فهي قوله- سبحانه-: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ ومعنى أَقْوَمُ أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج. أى: أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها.
وأما الفائدة الثالثة فهي قوله: وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أى: أقرب إلى زوال الشك والريبة.
أى أن الأوامر والنواهي السابقة إذا نفذت على وجهها كان تنفيذها أعدل في علم الله- تعالى- وأعون على إقامة الشهادة إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ، وأقرب إلى عدم الشك في جنس الدين وقدره وأجله، وإذا توفرت هذه الفوائد الثلاث في المعاملات ساد الوفاق والتعاون بين الناس، أما إذا فقدت فإن الثقة تزول من بينهم، ويحل محلها النزاع والشقاق.
ثم أباح- سبحانه- في التجارة الحاضرة عدم الكتابة فقال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها.
والتجارة الحاضرة التي تدور بين التجار: هي التي يجرى فيها التقابض في المجلس أو التي يتأخر فيها الأداء زمنا يسيرا. وسميت حاضرة، لأن المبيع والثمن كلاهما حاضر.
والمعنى: أن الله- تعالى- يأمركم بكتابة الديون وبالإشهاد عليها إلا أنه- سبحانه- رحمة بكم أباح لكم عدم الكتابة في التجارة الحاضرة التي تكثرون إدارتها والتعامل فيها، لأنه لو كلفكم بذلك لشق الأمر عليكم، وهو- سبحانه- ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
ولأن أمثال هذه التجارات التي يحصل فيها التقابض ويكثر تكرارها، لا يتوقع فيها التنازع أو النسيان.
والاستثناء هنا منقطع لأنه ليس هناك دين حتى يكتب، وليست التجارة الحاضرة من جنس التعامل بالديون فكأنه قيل: إذا تداينتم فتكاتبوا وأشهدوا لكن التجارة الحاضرة التي يجرى فيها التقابض لا جناح عليكم في عدم كتابتها.
وقيل: الاستثناء متصل والجملة المستثناة في موضع نصب لأنه استثناء من الجنس، لأنه أمر بالكتابة في كل معاملة واستثنى منها التجارة الحاضرة والتقدير: آمركم بالكتابة والإشهاد في كل معاملة إلا في حال حضور التجارة فلا بأس من ترك الكتابة. وتِجارَةً قرأها الجمهور بالرفع