وقوله- سبحانه-: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ معطوف على المقسم به الأول وهو قوله- تعالى-: بِهذَا الْبَلَدِ. وداخل في حيز القسم. والمراد بالوالد آدم- عليه السلام-، والمراد بما ولد: ذريته من بعده.
أى: أقسم بهذا البلد الذي له ماله من الشرف، والمكانة السامية بين البلاد.. وأقسم بأبيكم آدم، وبذريته من بعده.. أو أقسم بكل والد وبكل مولود.
وجيء باسم الموصول «ما» في قوله وَما وَلَدَ دون «من» مع أنها أكثر استعمالا في العاقل الذي هو مراد هنا، لأن «ما» أشد إبهاما، وشدة الإبهام المقصود بها هنا التفخيم والتعظيم.. وشبيه بذلك قوله- تعالى-: فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ... كما أن تنكير لفظ «والد» هنا للتعظيم أيضا.
وقيل المراد بالوالد هنا: ابراهيم- عليه السلام- وبما ولد: الصالحون من ذريته.
وقيل المراد بالوالد: من يولد له، وبقوله وَما وَلَدَ الذي لم يولد له وعليه تكون ما نافية.
وقد رجح الإمام ابن جرير المعنى الأول فقال: والصواب من القول في ذلك، ما قاله الذين قالوا: إن الله- تعالى- أقسم بكل والد وولده، لأن الله- تعالى- عم كل والد وما ولد، وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. ولا خبر بخصوص ذلك، ولا برهان يجب التسليم له بخصوصه، فهو على عمومه.. «١» .
وقوله- تعالى-: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ جواب القسم. والمراد بالإنسان:
جنسه، والكبد: الشدة والتعب والمشقة، من المكابدة للشيء، بمعنى تحمل المشاق والمتاعب في فعله. وأصله من كبد الرجل- بزنة طرب- فهو أكبد، إذا أصيبت كبده بالمرض، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعب ومشقة تنال الإنسان.
والمعنى: لقد خلقنا الإنسان لهذه الشدائد والآلام، التي هي من طبيعة هذه الحياة الدنيا، والتي لا يزال يكابدها وينوء بها، ويتفاعل معها.. حتى تنتهي حياته، ولا فرق في ذلك بين غنى أو فقير، وحاكم أو محكوم وصالح أو صالح.. فالكل يجاهد ويكابد ويتعب، من أجل بلوغ الغاية التي يبتغيها.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أى: في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يقاسى فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها.
(١) تفسير ابن جرير ج ٣٠ ص ١٢٥.