والمعنى: قد علمت أيها العاقل حال أولئك الأحبار من اليهود الذين أعطوا قسطا من معرفة كتابهم والذين دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى التحاكم إلى التوراة التي هي كتابهم فيما حدث بينهم وبينه من نزاع فأبوا أن يستجيبوا لدعوته، وأعرضوا عنها كما هو شأنهم ودأبهم في الأعراض عن الحق والصواب.
وعرف المتحدث عنهم- وهم أحبار اليهود- بطريق الموصولية، لأن في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم، لأن كونهم على علم من الكتاب قليل أو كثير من شأنه أن يصدهم عما أخبر به عنهم لو كانوا يعقلون.
وجملة يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ مستأنفة مبينة لمحل التعجب، أو حال من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب.
والمراد بكتاب الله: التوراة، لأن سبب النزول يؤيد ذلك، ولأن التعجيب من حالهم يكون أشد إذا كان إعراضهم إنما هو عن كتابهم. وقيل المراد به القرآن.
وقوله ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ معطوف على قوله يُدْعَوْنَ وجاء العطف بثم للإشعار بالفارق الشاسع بين ما قاموا به من إعراض عن الحق، وبين ما كان يجب عليهم أن يفعلوه. فإن علمهم بالكتاب كان يقتضى أن يتبعوه وأن يعملوا بأحكامه، ولكنهم أبوا ذلك لفساد نفوسهم.
وقوله مِنْهُمْ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لفريق.
وإنما قال فَرِيقٌ مِنْهُمْ ليخرج القلة التي أسلمت من علماء اليهود كعبد الله بن سلام، وهذا من إنصاف القرآن في أحكامه. واحتراسه في سوق الحقائق، فهو لا يلقى الأحكام على الجميع جزافا، وإنما يحدد هذه الأحكام بحيث يدين المتهم، ويبرئ ساحة البريء.
وقوله وَهُمْ مُعْرِضُونَ حال من فريق، أى ثم يتولى فريق منهم عن سماع الحق، والانقياد لأحكامه، وينفر منها نفورا شديدا. والحال أنهم قوم ديدنهم الإعراض والانصراف عن الحق.
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي صرفتهم عن الحق فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ.
واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى المذكور من توليهم وإعراضهم عن مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن سماعهم للحق الذي جاء به.