ثم حكى- سبحانه- ما قالته بعد أن وضعت ما في بطنها فقال- تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى.
قالوا: إن هذا خبر لا يقصد به الإخبار، بل المقصود منه إظهار التحسر والتحزن والاعتذار، فقد كانت امرأة عمران تتوقع أن يكون ما في بطنها ذكرا، لأنه هو الذي يصلح لخدمة بيت الله والانقطاع للعبادة فيه، لكنها حين وضعت حملها ووجدته أنثى، قالت على سبيل الاعتذار عن الوفاء بنذرها: رب إنى وضعتها أنثى، والأنثى لا تصلح للمهمة التي نذرت ما في بطني لها وهي خدمة بيتك المقدس، وأنت يا إلهى القدير على كل شيء فبقدرتك أن تخلق الذكر وبقدرتك أن تخلق الأنثى.
والضمير في قوله فَلَمَّا وَضَعَتْها يعود لما في بطنها. وتأنيثه باعتبار حاله في الواقع ونفس الأمر وهو أنه أنثى.
وقوله أُنْثى منصوب على الحال من الضمير في وضعتها، وهي حال مؤكدة لأن كونها أنثى مفهوم من تأنيث الضمير فجاءت أنثى مؤكدة.
وقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ جملة معترضة سيقت للايماء إلى تعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه، وللإشعار بأن الأنثى ستصلح لما يصلح له الذكور من خدمة بيته. أى: والله- تعالى- أعلم منها ومن غيرها بما وضعته، لأنه هو الذي خلق هذا المولود وجعله أنثى، وهو العليم بما سيصير إليه أمر هذه الأنثى من فضل، إذ منها سيكون عيسى- عليه السّلام- وسيجعلها- سبحانه- آية ظاهرة دالة على كمال قدرته، ونفوذ إرادته.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ بضم التاء وعلى هذه القراءة لا تكون الجملة معترضة وإنما هي من تتمة ما قالته، ويكون الكلام التفاتا من الخطاب إلى الاسم الظاهر وهو لفظ الجلالة إذ لو جرت على مقتضى قولها، رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى لقالت: وأنت أعلم بما وضعت.
ويكون قولها هذا من تتمة الاعتذار إلى الله- تعالى- حيث وضعت مولودا لا يصلح لما نذرته- في عرف قومها وتسلية لنفسها، أى ولعل الله سرا وحكمة لا يعلمها أحد سواه في جعل هذا المولود أنثى. أو لعل هذه الأنثى تكون خيرا من الذكر.
وقوله- تعالى- وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى يحتمل أنه من كلامه- سبحانه- وهو الظاهر- فتكون الجملة معترضة كسابقتها، ويكون: وليس الذكر الذي طلبته كالأنثى التي ولدتها، بل هذه الأنثى وإن كانت أفضل منه في العبادة والمكانة إلا أنها لا تصلح عندهم لسدانة بيت الله تعالى، بسبب حرمة اختلاطها بالرجال وما يعتريها من حيض وغير ذلك مما يعترى النساء.