فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى في الحرم جناية فهو مأخوذ بجنايته سواء أكانت في النفس أم فيما دونها.
واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لاذ إليه. فقال أبو حنيفة وابن حنبل: إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام فيه، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه فيقتص منه. وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه.
وقال مالك والشافعى يقتص منه في الحرم لذلك كله كما يقتص منه في الحل.
ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه.
ثم أخبر- سبحانه- عن وجوب الحج على كل قادر عليه فقال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
أى أن الله- تعالى- فرض على الناس أن يحجوا بيته في أوقات معينة وبكيفية مخصوصة متى كان في استطاعتهم أداء هذه الفريضة.
وَمَنْ كَفَرَ أى من جحد فرضية الحج وأنكرها، ولم يؤدها مع استطاعته وقدرته على أدائها فإن الله غنى عنه وعن حجه وعن الناس جميعا.
قال صاحب الكشاف: وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد منها قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يعنى أنه حق واجب الله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد:
أحدهما: أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له.
والثاني: أن الإيضاح بعد الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين.
ومنها قوله: وَمَنْ كَفَرَ مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: من مات ولم يحج فليمت إن شاء الله يهوديا أو نصرانيا ومنها ذكر الاستغناء عنه، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان. ومنها قوله: عَنِ الْعالَمِينَ ولم يقل عنه، لأن فيه الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط «١» .
وقوله: وَاللَّهُ خبر مقدم متعلق بمحذوف أى واجب. عَلَى النَّاسِ متعلق بهذا المحذوف. وقوله: حِجُّ الْبَيْتِ مبتدأ مؤخر.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٣٩٠.