المكسورة، أي حتَّى إذا أقيم الصَّلاة، والتثويب ههنا الإقامة، كما ذهب إليه الجمهور وبذلك جزم أبو عَوانة في «صحيحه» والخطَّابي والبَيْهَقي وغيرهم، والعامَّة لا تعرف التثويب إلَّا قول المؤذِّن في صلاة الفجر: الصَّلاة خير من النَّوم حسب، ومعنى التثويب في الأصل الإعلام بالشيء والإنذار بوقوعه، وأصله أن يلوِّح الرجل لصاحبه بثوبه فيدبره عند أمر يرهقه من خوف أو عدو، ثمَّ كثر استعماله في كلِّ إعلام يجهر به صوت، وإنما سمِّيت الإقامة: تثويبًا، لأنَّه عود للنداء، من: ثاب إلى كذا إذا عاد إليه، وقال القُرْطُبي: ثوِّب بالصَّلاة أي أقام لها، وأصله إنَّه رجع إلى ما يشبه الأذان، وكلُّ مردِّد صوتًا فهو مثوِّب، ويدلُّ عليه رواية مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة:((فَإِذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ ذَهَبَ)) وزَعَمَ بعض الكوفيين أنَّ المراد بالتثويب قول المؤذِّن بين الأذان والإقامة: حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصَّلاة، وحكى ذلك ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وزَعَمَ إنَّه تفرَّد به، لكن في «سنن أبي داود» عن ابن عُمَر: إنَّه كره التثويب بين الأذان والإقامة، فهذا يدلُّ على أن له سلفًا في الجملة، ويحتمل أن يكون الذي تفرَّد به القول الخاص.
قوله:(حَتَّى يَخْطُرَ) -بضمِّ الطاء وكسرها- وقال عياض: ضبطناه من المتقنين بالكسر، وسمعناه من أكثر الرُّواة بالضمِّ، قال: والكسر هو الوجه، ومعناه: يوسوس، من قولهم: خطر الفحل بذَنَبِه إذا حرَّكه يضرب به فخذيه، وأمَّا الضمُّ، فمن المرور أي يدنو منه فيما بينه وبين قبلته فيشغله عمَّا هو فيه، وبهذا فسَّره الشُرَّاح، وبالأوَّل فسَّره الخليل، وقال الباجي: فيحول بين المرء وما يريد من نفسه من إقباله على صلاته وإخلاصه. قال الهجري في «نوادره» : يخْطِر بالكسر في كلِّ شيء، وبالضمِّ ضعيف.
قوله:(بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه، وكذا وَقَعَ للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق، وبهذا التفسير يحصل الجواب عمَّا قيل، كيف يتصوَّر خطوره بين المرء ونفسه، وهما عبارتان عن شيء واحد؟ وقد يكون تمثيلًا لغاية القرب منه.
قوله:(يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا) هكذا هو بلا واو العطف في رواية الأكثرين، ووَقَعَ في رواية كريمة بواو العطف: <اذْكُرْ كَذَا وَاذْكُرْ كَذَا> في رواية مسلم وللبخاري أيضًا في صلاة السهو، وزاد مسلم من رواية عبد ربُّه عن الأعرج:((فَهَنَّاهُ وَمَنَّاهُ، وَذَكَّرَهُ مِنْ حَاجَتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ)).
قوله:(لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أي لشيءٍ لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصَّلاة، وفي رواية لمسلم:((لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ مِنْ قَبْل)) قال شيخنا: ومن ثمَّ استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه إنَّه دفن مالًا، ثمَّ لم يهتد لمكانه، أن يصلِّي ويحرص أن لا يُحَدِّث نفسه بشيء من أمر الدُّنْيا ففعل، فذكر مكان المال في الحال. قيل: خصَّه بما يعلم دون ما لا يعلم، لأنَّه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر إنَّه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم، ليشغل باله به، وبما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه، وهذا أعم من أن يكون في أمور الدُّنْيا أو في أمور الدين كالعلم، لكن هل يشمل ذلك التفكُّر في معاني الآيات الَّتي يتلوها؟