للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ولا فيه دلالة أصولية فافهم.

الثاني: ما قاله الباجي، وهو أن الخبر ورد مورِد الترهيب وحقيقتُه غير مرادة، إنما المرادُ المبالغةُ، ويرشد إلى ذلك وعيدهم (١) بالعقوبة التي يعاقَب بها الكفار، وقد انعقد الإجماعُ على منع عقوبةِ المسلمين بذلك (٢)، قيل: إنَّ المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار، وكان قبل ذلك جائزًا بدليل حديث أبي هريرة الآتي في الجهاد الدال على جواز التحريق بالنار ثم على نَسْخِه، فحَمْلُ التهديد على حقيقته غير ممتنع

الثالث: ما قاله ابن بَزِيزَة عن بعضهم أنه استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب، لكونه - عليه السلام - هَمَّ بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعةُ فرض عينٍ ما هَمَّ بتركها إذا توجه، وتعقَّبَهُ بأن الواجب يجوز تركُه لِمَا هو أوجب منه. انتهى. وقال شيخنا: وليس فيه أيضًا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعةٍ آخرين.

الرابع: كونه - صلى الله عليه وسلم - ترك تحريقَهم بعد التهديد، فلو كان واجبًا لما عفا عنهم. قال القاضي عياض ومن تبعه: وليس في الحديث حجة، لأنه- عليه السلام -هَمَّ ولم يفعل. زاد النووي: ولو كانت فرض عين لَمَا تركهم. قال العيني: قول النووي أقرب. وقال ابن دقيق العيد: هذا ضعيف، لأنه - عليه السلام - لا يَهِمُّ إلا بما يجوز له فِعْلُهُ لو فَعَلَه، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتَرَكوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية)) الحديث. وقد تقدم.

الخامس: ما قيل: إنَّ المراد بالتهديد قومٌ تركوا الصلاة رأسًا لا مجرد الجماعة. وَرُدَّ بما رواه مسلم: ((لا يشهدون الصلاة))، أي لا يحضرون. وفي رواية عجلان عن أبي هريرة: ((لا يشهدون العِشاء في الجميع)) أي في الجماعة. وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعًا: ((ليَنتَهِيَنَّ رجالٌ عن تركهم الجماعات أو لأحرقنَّ بيوتهم)).

السادس: ما قيل: إنَّ الحديث وَرَدَ في الحثِّ على مخالفة فِعلِ أهل النفاق والتحذيرِ من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة، فلا يتم الدليل. أشار إليه الزين بن المنير. قال شيخنا: وهو قريب من الوجه الثاني. انتهى.

السابع: ما قيل: إن الحديث وَرَد في حق المنافقين، فليس التهديد به لترك الجماعة بخصوصه فلا يتم الدليل. وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على ترك الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه كان مُعرِضًا عنهم وعن عقوبتِهم مع علمه بطَوِيَّتِهم، وقد قال: ((لا يتحدث الناس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه)) وتعقَّب ابنُ دقيق العيد هذا التعقُّبَ بأنه لا يتم إلا إن ادَّعَى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبًا عليه فلا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنه كان مخبِرًا فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم. انتهى.

قلت: وأيضًا إعراضه عن عقوبة المنافقين لِمَا أظهروه من الإسلام ((وحسابهم على الله)) - كما قال عليه السلام-، وهذا الإعراضُ لا يقتضي الإعراضَ عنهم بالكلية حتى لا يُحوِجَهم على ترك ما يرجو فيه صلاح قلوبهم من الصلاة معه والقُربِ من الرحمةِ وسماعِ كلام الله الذي لو نُزِّل على جبلٍ لرأيته خاشعًا، لأنه


(١) في (الأصل) : ((وعندهم)) والصواب ((وعيدهم)).
(٢) في (الأصل) : ((فذلك)) والصواب ((بذلك)).

<<  <   >  >>