قوله:(وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا) استُدِلَّ به على صحة إمامة الجالس كما تقدم، وادَّعى بعضُهم أن المراد بالأمر أن يقتدي به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين لأنه ذَكَرَ ذلك عقب ذكر الركوع والرفع عنه والسجود، قال: فيُحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيماً له فأمرهم بالجلوس تواضعاً، وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر:((إنْ كدتم آنفاً تفعلون فعلَ فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا)). وتعقَّبَه ابن دقيق العيد وغيرُه بالاستبعاد وبأنَّ سياق طرق الحديث تأباه وبأَّنهُ لو كان المراد الأمرُ بالجلوس في الركن لقال: وإذا جلستُ فاجلسوا، لتُناسب قوله:((وإذا سجد فاسجدوا))، فلما عَدَل عن ذلك إلى قوله:(وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا) كان كقوله: (وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا) والمراد بذلك جميعُ الصلاة. ويؤيد ذلك قولُ أنس: فصلينا وراءه قعوداً.
قوله (أَجْمَعُونَ) تقدم الكلام عليه آنفاً.
فيه من الفوائد غير ما تقدم في الحديث السابق: مشروعيةُ ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها. واستحبابُ التأسي إذا حصل له منها سقوطٌ أو غيرُه أو غيرُ ذلك بما اتَّفَقَ للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة. وبه الأسوة الحسنة. وفي ذلك أنه يجوز على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يجوزُ على البَشَر من الأسقام ونحوِها من غير نقصٍ في مقدارِه بذلك بل ليزداد قدرُه رِفْعَةً ومنصبُه جلالة عليه أفضل الصلاة والسلام.
قوله:(قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أي البخاري رحمه الله، ترجمته في مقدمة هذا الشرح.
قوله:(قَالَ الحُمَيْدِيُّ) أي عبد الله بن الزبير بن عيسى ابن عبيد الله بن حميد القرشي الأسدي المكي، ويكنى أبا بكر، وهو شيخ البخاري ومن أفراده وتلميذُ الشافعي رحمه الله، مات سنة تسع عشر ومائتين، قلتُ: تقدمت ترجمته في بدء الوحي. انتهى.
قولُه:(قَوْلُهُ: ((إِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا)) هُوَ فِي مَرَضِهِ القَدِيمِ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا، وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامٌ، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالقُعُودِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ، مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قد تقدم أنه يُفهم من هذا ميلُ البخاري إلى ما قاله الحميدي ومذهب الأئمة.
قال ابن حبان - كما تقدم بعضُه وتعقبه شيخنا بعد أن روى حديث عائشة المذكور -: في هذا الخبر بيانٌ واضحٌ أنَّ الإمام إذا صلى قاعداً كان على المأمومين أن يصلوا قعوداً، وأفتى به من الصحابة جابر بن عبد الله وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قَهْدٍ، ولم يُرْوَ عن غيرهم من الصحابة خلافُ هذا بإسناد متصل ولا منقطع، فكان إجماعاً، والإجماع عندنا إجماع الصحابة. وقد أفتى به من التابعين أيضاً، وأولُ من أبطل ذلك من الأئمة المغيرةُ بن مقسم، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذه عنه أبو حنيفة ثم عنه أصحابه، وأعلى حديثٍ احتجوا به حديثٌ رواه جابر الجعفي