للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

المُسْتَمْلي: ((قَالَ: ثمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ)) بزيادة كلمة (ثُمَّ)، والبرُّ بكسر الباء الموحَّدة: الإحسان، و (بِرُّ الوَالِدَيْنِ) : الإحسان إليهما والقيام بخدمتهما وترك العقوق والإساءة إليهما، من برَّ يَبرُّ فهو بارٌّ وجمعُه بَرَرَةٌ.

قوله: (الجِهَادُ فِي سَبِيْلِ اللهِ) وهو المحاربة مع الكفَّار لإعلاء كلمة الله وإظهار شعائر الإسلام بالنفس والمال، فإن قلت: ما الحكم في تخصيص الذكر بهذه الأشياء الثلاثة؟ قال العَيني: هذه الثلاثة أفضل الأعمال بعد الإيمان، من ضيع الصَّلاة الَّتي هي عماد الدين مع العلم بفضيلتها كان لغيرها من أمر الدين أشدَّ تضييعًا وأشدَّ تهاونًا واستخفافًا، وكذا من ترك برَّ والديه فهو لغير ذلك من حقوق الله أشدُّ تركًا، وكذا الجهاد من تركه مع قدرته عليه عند تعيُّنه فهو لغير ذلك من الأعمال الَّتي يُتقرب بها إلى الله أشدُّ تركًا، فالمحافظ على هذه الثلاثة حافظ على ما سواها، والمضيِّع لها كان لما سواها أضيع.

قوله: (حَدَّثَنِي بِهِنَّ) مقول عبد الله بن مسعود، أي بهذه الأشياء الثلاثة، وإنَّه تأكيد وتقرير لما تقدَّم، وإنَّه باشر السؤال وسمع الجواب؛ إذ لا ريب أنَّ اللَّفظ صريح في ذلك، وهو أرفع درجات التحمُّل.

قوله: (وَلَوِ اسْتَزَدتُهُ) أي ولو طلبت منه الزيادة في السُّؤال لزادني رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم في الجواب، ثمَّ طلبُه الزيادة يحتمل أن يكون أرادها من هذا النَّوع وهي مراتب أفضل الأعمال، ويحتمل أن يكون أرادها من مطلق المسائل المحتاج إليها، وفي رواية التِّرْمِذي من طريق المسعودي عن الوليد: ((فسكت عنِّي رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم ولو استزدته لزادني))، فكأنَّه فهم منه السآمة، فلذلك قال ما قاله، ويؤيِّده ما في رواية مسلم: ((فما تركت أستزيده إلَّا إرعاء عليه)) أي شفقة عليه لئلَّا يسأم.

فيه: أنَّ أعمال البرِّ يفضل بعضها على بعض عند الله تعالى، فإن قلت: ورد أنَّ إطعام الطعام خير أعمال الإسلام، وورد أنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله أدومه وغيرُ ذلك، فما وجه التوفيق فيها؟ قال العَيني: أجاب النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم لكلِّ من سأل بما يوافق غرضه، أو بما يليق به، أو بحسب الوقت، فإن الجهاد كان في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال؛ لأنَّه كان الوسيلة إلى القيام بها والتمكُّن من أدائها، أو بحسب الحال؛ فإن النصوص تعاضدت على فضل الصَّلاة على الصدقة، وربَّما تجدَّد حالٌ يقتضي مواساة مضطر فتكون الصَّدقة حينئذ أفضل.

ويقال: إن أفعل في أفضل الأعمال ليس على بابه، بل المراد به الفضل المطلق، ويقال: التقدير: إنَّ من أفضل الأعمال، فحذفت كلمة مِن، وهي مرادة. قال العَيني: وفيه نظر. قلت: من جهة أنَّ السائل على هذا التقدير لم يحصل له الجواب عن جميع ما سأل عنه، وأيضًا إذا قلنا: البيان لا يتأخَّر عن وقت الحاجة، وأيضًا فقد أتى في اللَّفظ بثُمَّ الَّتي لا تقتضي مشاركة الثَّاني للأوَّل في الرتبة.

وقال ابن بطَّال: فيه أنَّ البدار إلى الصَّلاة في أوَّل وقتها أفضل من التراخي فيها؛ لأنَّه إنَّما شرط فيها أن تكون أحبَّ الأعمال إذا أُقيمت لوقتها المستحبِّ. قال العَيني: لفظ الحديث لا يدلُّ على ما ذكره على ما لا يخفى. وقال ابن دقيق العيد: ليس في هذا اللَّفظ - أي قوله عليه السلام-: (على وقتها) ما يقتضي أولًا ولا آخرًا، وكأنَّ المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء. قال شيخنا: وتُعُقِّبَ بأنَّ إخراجها عن وقتها محرَّم، ولفظ (أحبُّ) يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المراد الاحتراز

<<  <   >  >>