ولهذا فإن طلب الشيخ ابن منيع الذي كرره مرارًا، وتكاثرت الأصوات المنادية به " بالتوجه إلى ولي الأمر بالموافقة على عقد مؤتمر يجمع بين علماء الشرع وعلماء الفلك للنظر في المسائل الفلكية المتعلقة بحسبان منازل الشمس والقمر وما يتعلق بذلك من نتائج تفيدنا في تحديد أوقات الصلاة والصيام والحج وهذا طريق من طرق التثبت والتحقق "، طلب في غير محله.
فإن قال قائل هذا تفريق غريب، والأصل أننا نصوم حينما نرى الشهر الفلكي، كما أننا نصلي حينما تغيب الشمس، سواء كان مغيبها فلكيا، أو مغيبها مشاهدا محسوسا، قلنا هذا من أسباب الإشكال الوارد على الشيخ ابن منيع ومن معه في مسألة العلم، ومطابقته للواقع، ومطابقة الشرع للعلم، وهو ما سيتضح في ما يلي:
ما الدليل على التفريق بين العمل بالحساب في أوقات الصلاة، والعمل بالحساب لإثبات الهلال:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، وقال أيضا (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروا الهلال)، وما برح علماؤنا يقولون بأن الشارع علق الصوم على الرؤية، ولا زال كثير من القائلين بالحساب سواء في الإثبات أو النفي عاجزين عن فهم هذه الجملة القصيرة السهلة، الذي كانت سهولتها ووضاحتها سببًا في إهمالها، وظنًا بقائلها أنه لم يدرك حقيقة الخلاف، ولم ينظر في الفلك، ولم يعرفه، بل ولم يكن عميقًا في بحثه، وأخذته البساطة بعيدا عن التحقيق، وسبحان الله العظيم.
قصد هؤلاء العلماء الأجلاء أن مناط الصوم هو الرؤية، أي أن علة الصوم هي الرؤية، وللشريعة علل بل ومقاصد لا يدرك مراميها كل أحد، ولا زال المسلمون المنصفون يتأملون فيها، لينكشف لهم كل يوم حكمة جديدة، فمناط الصوم أيها السادة هو أحد ما قدمناه؛ الشهود، أو إكمال العدة، وفوق الأمرين قبول إمام المسلمين أو جمهورهم لذلك، وقد تكلم عدد من العلماء في مقصد الشارع من بنائه حكم الصوم هذا على الرؤية البصرية، هل هو شعيرة؟ يعني أن يخرج المسلمون لترائي الهلال؟ أم ربطهم بالمخلوقات الكونية؟ أم تعليمهم منازل القمر؟ أم جعلهم يترقبون إعلان بدء الصوم، وبدء العيد، ويوم عرفة، دون أن يكونوا قد حددوا هذا اليوم من قبل؟ أم ربطهم بالأهلة، وبالتاريخ الهجري؟
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) فهل الرؤية مقصودة لذاتها، أم أنها وسيلة لمعرفة ابتداء الشهر، فإذا ما عرف الشهر بأي وسيلة أخرى، ثبت حكم الصوم؟ وبتعبير الشيخ القرضاوي، هل الرؤية وسيلة لغاية فمتى ما تحققت هذه الغاية تحقق الحكم، أم أنها غاية في ذاتها؟ يظهر لي أن هذا لب الخلاف بين الفريقين.
فقولنا إذًا "مناط الصوم" معناه أن المعنى الذي سمي له شهر رمضان شهر رمضان، هو رؤية هلاله، أو استكمال العدة، أحد تلك الثلاثة، فرؤية هلاله، ليس جزءً زائدا على حقيقة الشهر، بل هي جزء من ماهية الشهر، فلا يسمى شهر رمضان كذلك لمجرد ولادة هلاله، بانفصال القمر من شعاع الشمس - أعني القمر الفلكي -، وهذا كقولنا الخمر متى يسمى خمرًا شرعًا؟، قيل إن مناط تسميته باسم هذا الشراب المحرم لإسكاره، هو الإسكار، وعليه فلو وجد ثمة شراب يحمل نفس الأوصاف، وله نفس المركبات، لكنه غير مسكر، لما سمي خمرًا، ولما علق عليه التحريم، فهو عندنا - أي في الشريعة - ليس بخمر، وإن سماه العلم والعالم كله خمرًا، إذ قد علق التحريم بالإسكار، والإسكار مناط تسمية الشراب خمرًا، وهو جزء لا يتجزأ من حقيقته.