للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولمزيد من البيان والتقرير لكون الرؤية جزءًا من الغاية ومقصودا فيها، نقول: كان يمكننا موافقة الشيخ ابن منيع ومن معه من القائلين بالحساب، في أن المقصود هو ولادة قمر الشهر الجديد، أعني حصول هذه الظاهرة الكونية، سواء كان ذلك في النفي أو في الإثبات، عند تحقق واحد من أمرين:

الأول: أننا نجد بعد استقراء كلام الشارع، وكلام شراح كلام الشارع - علمائنا السابقين- أنّ ثمة إيماءات وتنبيهات على أن الصوم متعلق بولادة قمر الشهر الجديد، عندئذ نقول جمعًا بين الأدلة أن شهر رمضان الذي يجب صومه هو الشهر الفلكي التاسع، وليس الشهر الذي يبدأ بإحدى هذين الطريقين.

الثاني: أن تأتي النصوص مطلقة غير معلقة الحكم بالرؤية، كما هي الحال في الصلاة لمواقيتها، إذ إن نصوصها جاءت مطلقة غير مقيدة، فعلم بهذا أن تلك المواقيت أعني الظواهر الفلكية التي تجري على الشمس والقمر، معلقة بما يدل عليها وحسب، سواء كان رؤية أو حسابًا أو غيره، قال الله تعالى (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (الإسراء: ٧٨) فعلق الحكم هنا بذات الدلوك ولو قال: أقم الصلاة لشهود دلوك الشمس لتغير الأمر، وسبحان من علق الصوم الذي يأتي في العام مرة، على ذلك، وعلق الصلاة التي تتكرر كل يوم مرات على هذا، فسبحانه ما أجل حكمته ورحمته بعباده.

وقد نص على هذا القرافي في كتابه الماتع الفروق، فقال رحمه الله ( ... والفرق - وهو المطلوب ههنا وهو عمدة السلف والخلف -: أن الله تعالى نصب زوال الشمس سبب وجوب الظهر وكذا بقية الأوقات لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (١). أي لأجله، وكذلك قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (٢). قال المفسرون: هذا خبر معناه الأمر بالصلوات الخمس في هذه الأوقات حين تمسون: المغرب والعشاء، وحين تصبحون: الصبح، وعشياً: العصر، وحين تظهرون: الظهر، والصلاة تسمَّى سُبحة، ومنه سبحة الضحى أي: صلاتها، والآية أمر بإيقاع هذه الصلوات، وغير ذلك من الكتاب والسنة الدال على أن نفس الوقت سبب، فمن علم السبب بأي طريق كان، لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات وأما الأهلّة، فلم ينصب صاحب الشرع خروجها من الشعاع سبباً للصوم، بل رؤية الهلال خارجاً من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي فلا يثبت الحكم، ويدل على أن صاحب الشرع لم ينصب نفس خروج الهلال عن شعاع الشمس سبباً للصوم قوله صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ". ولم يقل لخروجه من شعاع الشمس، كما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (٣). ثم قال: " فإن غُمَّ عليكم "أي: خفيت عليكم رؤيته " فاقدروا له ". وفي رواية: "فأكملوا العدة ثلاثين ". فنصب رؤية الهلال أو إكمال العدة ثلاثين، ولم يتعرض لخروج الهلال من الشعاع] (٤).


(١) سورة الإسراء: الآية رقم (٧٨).
(٢) سورة الروم: الآية رقم (١٧، ١٨).
(٣) سورة الإسراء: الآية رقم (٧٨)
(٤) الفروق (٢/ ١٧٩)

<<  <  ج: ص:  >  >>