للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه قضية هامة في موضوعنا، لكنّ الذين يتبنون العمل بالحساب سواء في النفي أو في الإثبات معه لا يولونها اهتمامًا كافيًا في البحث، ومعلوم كما تقدم أن الشريعة الإسلامية قررت وسائل للإثبات، منها ما هي وسائل مجردة، متى ما ثبتت الغاية بها أو بدونها ثبت الحكم، وذلك مثل تطهير النجاسات، وإثبات أوقات الصلاة، واتجاه القبلة، وغياب الشمس للفطر، وظهور الفجر للصوم، ونحو ذلك

وهناك وسائل مقصودة بذاتها، وقد تكون مع ذلك مرادة لغايات أخر، فكونها مرادة لغايات أخر لا ينفي ولا يعارض كونها هي مقصودة لذاتها، مثل الغسل من الجنابة، والأذان للإعلام بوقت الصلاة، والاجتماع لحضور الجمعة في يوم الجمعة، وإثبات نسب الولد لفراش الزوجية أو ملك اليمين، وإثبات الزنا بشهادة شهود أربع على حصول الإيلاج، وأمثلة ذلك لا حصر لها، فمثة وسائل، وغايات، ووسائل هي نفسها غايات، وغايات لا تنفك أن تكون وسائل، والله أعلم.

ثم إن البينات في الشريعة مثل اليمين، والكتابة، وشهادة الشهود المستوفين للشروط الشرعية إذا انفكت عما يكذبها شرعًا، أو حسًا، أو عقلاً، فإنها ملزمة، غير معلمة، ولولا أن الأمر يطول لاستقرأنا أمثلة ذلك من كتب الفقهاء، حتى نبين أن قول من قال إنما هي معلمة غير ملزمة غير مقصود، أو مقصود لكن أراد به قائله ذلك الحكم الذي تقترن البينات فيه بما يعارضها مما ذكر.

ولهذا، -والشيخ ابن منيع من أول من يعلم - اختلاف العلماء في القاضي هل يحكم بعلمه أم لا؟

والصواب الذي عليه المحققون - وهو مذهب الجمهور - أنه لا يقضي بعلمه، إلا إذا أراد أن يدرأ حدًا، أو اكتسب العلم بحس في مجلس القضاء، أو نحو ذلك، وفي الصحيحين عن أم سلمة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ.

وفي صحيح البخاري في قصة الملاعنة المشهورة بين هلال بن أمية وامرأته، وفيه فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ، فَمَضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بن سَحْمَاءَ فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ.

فهذه المرأة قد وقع منها الزنا، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استقر عنده يقينًا أو ظنًا غالبًا أنها قد وقعت في ذلك، تأكد هذا يوم أن قال لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن، ومع ذلك لم يحكم بهذا كله، بل حكم بظاهر البينة التي أوجبها الله، أعني الملاعنة، فجنس البينة هنا مقصود، ولا يملك القاضي أن يخالفه ..

<<  <  ج: ص:  >  >>