فإذا تأسس هذا، جاز لنا أن نسأل فنقول إن شهد شهود عدول برؤية هلال شوال، فهل يملك القاضي لأي سبب آخر أن يرد شهادتهما، أو أن يعمل بموجبها؟ لا أظن أحدًا، ولم أطلع على من قال يردها، وأنى له ذلك؟ وما حجته أمام الله يوم أن يقول له، قال لك نبيي بأنه إن شهد شاهدان فصوموا، فلم لم تصم؟ فلا يملك إلا أن يقول يا رب كان عندي قرينة تكذبهم؟ وعندئذ يكون السؤال ما هي القرينة التي يمكن أن يعذر بها القاضي في تكذيب شهادة الشهود أو ردها!؟، فهل يجيب بأنه علم قاطع، قضى بأن الهلال لا يرى في تلك الليلة!.
إن شهادة الشهود حكم شرعي، لا يرده إلا حكم شرعي، والحكم الشرعي الذي يمكن أن يرد شهادة الشهود، هو شهود غيرهم يعارضون ما قاله الأولون، أو مخالفة هذه الشهادة للشرع، أو الحس، أو العقل، وهذا متفق تماما مع قول الشيخ ابن منيع " وسماحة شيخنا يعرف ويعلم أن الشهادة يحتاج قبولها أمرين: أحدهما أن تكون الشهادة منفكة عما يكذبها حساً وعقلاً. والثاني ثبوت عدالة الشاهد. ونحن لا نشك أن القضاء قد استكمل تعديل الشهود ولكن عدم انفكاك الشهادة عما يكذبها لا يزال ثغرة نقص في صحة الشهادة والله المستعان"
فإشكال الشيخ وكثيرين في هذه الأيام وعلى رأسهم الشيخ القرضاوي، في الأخذ بشهادة الشهود مع معارضتها للحساب، إذ إنها عندئذ لا تنفك عما يكذبها، وربما استشهد البعض بكلام لابن تيمية، وابن عثيمين وغيرهم في أنه لو شهد شاهد برؤية الهلال قبل غروب الشمس ردت شهادته.
وهذه من المواطن التي التبست على الشيخ وعلى من قال بقوله، فإنهم لم يميزوا بين "ما يقطع به العلم"، وما يعتبره الشرع قطعيًا، فما يقطع به العلم ينظر العلم فيه إلى حقيقة الأمر، وما يقطع به الشرع ينظر فيه الشرع إلى اعتبارات كثيرة منها، قد يكون العلم أحدها وقد لا يكون، فليس مما يفيد القطع شرعًا بمجرده، ليس تقليلا من شأنه ولكن لكل مقام مقال، فلو اتفق أهل الأرض كلهم على قطعية ودقة العلم الفلكي، فنظرة الشارع وتشوفه غير نظرة الفلك وتشوفه، وللشارع "اعتباراته الخاصة".
فالحس هو السمع، والبصر، والشم، واللمس، والذوق وهو ما يقوى على معارضة البينات، فشهادة الشهود التي يمكن أن ترد هي الشهادة التي تخالف الحس هذا، أما العلم المستند إلى غير الحس، بل يحصل بالنظر والآلات، فإن الشارع لم يحل عليه ولم يلتفت إليه مطلقاً، فالحكم بمقتضاه ورد الشهادة المعتبرة في الشرع أمر محدث لم يعهد عند علماء الأمة وتبديل لأحكام الشريعة واستدراك على الشارع.
فالحس هو ما يقوى على معارضة البينات، فشهادة الشهود التي يمكن أن ترد هي الشهادة التي تخالف الحس هذا، أما العلم المستند إلى غيب عن الإنسان، فإن الشارع يرده، وله إرادته وقصده في هذا، ليس لنا إلا أن نسلم ونذعن له.
وهكذا يقال في العقل، فالعقل الذي يعتبره الشارع، هو العلم الضروري، أو المنطق الذي لا يحتاج إلى نظر أو تفكير، كقولنا إن الواحد أصغر من الاثنين، والكل أكبر من الجزء، ونحو ذلك، فليس هذا بالعلم، ولا هذا بالحساب، بل هو العقل وهذا معلوم مستقر، وإني أرغب إلى الإخوة القائلين بهذا القول أن يأتوا لنا بأمثلة من الشريعة تدل على اعتبار ذلك النوع من العلم معارضًا للشهادة أو نحوها، وعندئذ تستقيم لهم دعواهم، أما نحن فقد قدمنا أمثلة من الشريعة تدل على نفي اعتبار الشريعة لمقتضى هذا العلم، وأظهر مثال تقدم معنا هو مقتضى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) في إثبات نسب الولد لمن ولد على فراشه دون اعتبار العلم الذي يمكن أن يكون قطعيًا.