للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك من جهة، ومن جهة أخرى فقد خلط الشيخ ابن منيع بين الحقيقة العلمية، وبين بعض الحسابات المتعلقة بالحقيقة العلمية والمبنية عليها، فقد قال (ولاشك بوجود الفرق بين من يتقدم بشهادة رؤية الهلال وبين من يذكر بحقيقة علمية معروفة لدى علماء ذلك العلم. فالأول يأتي بخبر يختص هو بمصدره - وهي الرؤية - والثاني يأتي بخبر علمي يشترك في معرفته جميع علماء ذلك العلم، فالأول في حاجة إلى تعديل وإنصاف بالثقة والأمانة والتقوى والصلاح لكون مصدر علمه بذلك الخبر - وهو الشهادة بالرؤية - ذاتياً في نفسه والثاني لا يلزم اشتراط تقواه وصلاحه لكون خبره معلوماً لجميع علماء ذلك الخبر) فالحقيقة العلمية الواقعة - أعني أنها حاصلة في الحاضر، نعم قد لا يحس بها كل أحد، لكنها هناك - هي التي تبني الشريعة عليها الأحكام في الغالب، أما الحسابات التي تتوقع المستقبل، فلم نر في الشريعة اعتبار لها، فثمة فرق عقلي هام بين الحقائق الفلكية وبين الحسابات الفلكية في أمر ولادة الهلال، وإمكانية رؤيته، فالحقيقة العلمية التي يمكن أن تعتبر، لا يختلف فيها الناس لأنها واقع حاضر محسوس، أما الحسابات الفلكية فهي إخبار أو تنبؤ عن مستقبل لما سيكون الأمر عليه بناء على تلك الحقائق الحاضرة، لكنه يعتمد على مؤثرات عديدة، فمنها في ما نحن فيه سرعة القمر، والشمس، والأرض، ومدار كل واحد منهما، وغير ذلك.

وأرجو أن يتأمل الجميع هذه الأحوال:

١ - أن نقول السيارة موجودة، وتتحرك بالوقود، وتصل سرعتها إلى مائة كيلو متر في الساعة.

٢ - أن نقول أيضا إذا سارت السيارة بسرعة مائة كيلو متر في الساعة فإنها ستقطع مسافة ٢٠٠ كيلو متر في ساعتين، فإذا سارت من نقطة أإلى نقطة ب التي تبعد عنها ٢٠٠ كيلو متر، في الساعة العاشرة، وكانت سرعتها عندئذ ١٠٠ كيلو متر في الساعة، فإنها ستصل إلى نقطة ب في الساعة الثانية عشرة

٣ - تبعد مدينة الرياض عن مدينة الدمام ٤٠٠ كيلو متر، وسيسافر صالح من الدمام إلى الرياض يوم السبت القادم الساعة الثامنة صباحًا، وسيسير بسرعة ١٠٠ كيلو في الساعة، وسيتوقف لمدة نصف ساعة، وسيكون انطلاقه في البداية متسارعًا حتى يصل إلى سرعة ١٠٠ خلال ١٠ دقائق، وعليه فإنه وبالحسابات العلمية، سيصل إلى مدخل الرياض في تمام الساعة الواحدة إلا ربع مثلا.

الأولى: حقائق علمية لا شك في ذلك، ولا ينكرها إلا مكابر، والثانية: حساب حسي - كما مر معنا في مثال الشيخ ابن منيع السابق - أما الثالثة: فهي إخبار عما يمكن أن يحدث وتوقيته، أعني أنها إخبار عن مستقبل، وكل أحد يوافقني أن ذلك التوقيت والتوقع نظريٌ قد يكون صحيحا، لكنه قد يتخلف لأسباب كثيرة جدًا، فليتنبه إلى هذا الفرق، أعني الإخبار عن ماض، والإخبار- أو التوقع الدقيق - عما يمكن أن يكون في المستقبل بناء على الحقائق العلمية الثابتة في الزمن الماضي.

ثم إن قال لنا الحاسب يوم السبت الساعة الواحدة إلا ربع، الآن قد وصل صالح إلى الرياض فإننا لا نجزم بذلك لتطرق الشك إلى كلامه، لأننا نعلم يقينا أن ثمة عوامل مؤثرة قد تعرقل سيره فيتأخر أو يتقدم، لكن دعونا من هذه العوامل وتأثيرها، بل هبوا جدلا أن هذه العوامل منعدمة، فإننا نقول إن مجرد الإخبار عن وصوله بناء على هذا الحساب تعتريه مشكلتان:

الأولى: أنه لا يقول أحد بأنه قطعي لا يقبل الشك، وحتى وإن قلنا ذلك، تبقى لنا المشكلة الأهم، وهي ما تكرر معنا عدة مرات، وهي:

الثانية: أن الشريعة لا تبن على مثل هذا الحساب حكمًا، وأظن أن كثيرًا من النظم الوضعية تراعي مثل هذا، وهذا الذي يسمى في القانون بمبدأ شرعية الأدلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>