ولمزيد من بيان الفرق، هبوا أن المخبر بأن صالحا قد وصل اتصل بصديق له في مدينة الرياض قد شاهد لحظة وصول صالح، فأخبره بها، فعندئذ يكون خبر هذا المخبر شهادة، لا حسابا، فيقبل.
نعم، سينبري هنا أصحاب الفلك قائلين بأن الجهل كل الجهل أن نقارن سيارة تسير في طرق كلاهما من صنع البشر، وشمس وقمر يسيران بحسبان كما قال الله جل وعلا، ونحن نقول نعم هناك فروقات كثيرة، لكننا ما قصدنا أبدًا تشبيه السيارة بالقمر، ولا سيرها بسيره، وإنما قصدنا تقريب الفرق بين الحقيقة الثابتة، وبين الحساب المبني عليه للإخبار عن شيء لم يحصل بعد، أو هو في عداد الغيب، فأرجو التنبه.
فإن قال قائل إننا لو حكمنا حسابًا باستحالة وصول صالح إلى الرياض قبل الساعة الواحدة إلا ربع، أو لنقل قبل الساعة الثانية عشر ظهرا، بناءً على أكبر تقدير لسرعته، وأفضل تقدير لمقدار سيره وتوقفه وعوامل الطريق الأخرى، ثم بعد ذلك شهد عدل بأنه وصل الساعة الثانية عشرة إلا ربع مثلا، لقال قائل يمكن أن يصح هذا لأن الفرق يسير، لكن لو قال قائل أنه وصل الساعة العاشرة مثلا لبلوغ الاستحالة حد اليقين، والجميع يقر بهذا عقلا، فمادام أنكم أقررتم بذلك، فلم لا تقرون به يوم أن نحكم باستحالة رؤية الهلال في ليلة التاسع والعشرين في أحد الأشهر مثلا؟
قلنا جوابًا على ذلك، الفرق بين ليلة التاسع والعشرين فرق يسير إذا ما قورن بعمر القمر كله، ولا يكاد يخالف في ذلك إلا مكابر، ثم إننا أبدًا ما قلنا بقبول من يزعم رؤية الهلال في ليلة السابع والعشرين مثلا، فضلا عن ليلة العشرين، بل إن الشارع قد لاحظ هذا الفرق، فحكم كما في حديث ابن عمر في الصحيحين أن الشهر يكون تسعة وعشرين، وثلاثين، فلا يكون أقل ولا أكثر.
ثم إن الدارس في علم الفلك يعلم يقينا أن العوامل المؤثرة في ولادة القمر، ثم إمكان رؤيته، كثيرة جدًا، والله جل وعلا قادر على أن يحدث تغيرا طفيفا في أحدها، يجعل الرؤية ممكنة في وقت غير ما حسبه الحاسبون.
ولو قال قائل أيضا بأن سير القمر والشمس، والعوامل المؤثرة فيه، قد عرفها الحاسبون منذ القديم، وأخذوا بها، عبر مئات من السنين، وحركة الشمس والقمر مضبوطتان بسنة كونية (بحسبان)، قد عرفت جميع جوانبها، وتطورت آلات الحساب، ومناظير المراقبة لدرجة عالية جدًا، فلو قال أجمع أهل الفلك المختصون بأن الحساب يحيل ظهوره في وقت كذا، لكان يقينا بأنه يستحيل ظهوره، فسلموا لنا - في أقل الأحوال - بأنه يستحيل ظهوره، حتى لو لم ترتبوا عليه أي حكم شرعي.
قلنا جوابا على ذلك، إن هذا غير مقبول أيضا، وذلك لسبب يسير جدًا، وهو أن هذا كله ما زال توقعًا عن أشياء غيبية مستقبلية كثيرة جدًا، لم يأت ما يؤيدها - ولن يأت - من الحس، ولو في حالة واحدة، ولذا فلا اعتبار لها في الشريعة البتة، وبيان أنه لم يأت ولن يأت ما يؤيدها أن النفي لا يقوى على مقاومة الإثبات إلا بالحس، فلو وضع الفلكيون تواريخ ولادة أهلة السنين كلها، ثم بنو على ذلك أنه تستحيل رؤية هذه الأهلة قبل تلك التواريخ، فما هو الحس الذي يمكن أن يؤيد هذه التوقعات؟ إن رؤيته في التاريخ الذي وضعه الفلكيون لا يعني أبدا أنه لا يمكن أن يرى قبله، ولا يمكن للحس أن يشهد بالنفي المطلق والمجرد عن إثبات ما عداه، فليتأمل.
وعلى هذا التقرير العقلي، فإنه لا يمكن للفلكيين بأن يجزموا بصحة حساباتهم عن المستقبل وما لم يشاهد جزمًا يصل إلى مرتبة ما يشاهد، ولذا ولغيره لم تعتبره الشريعة.