وخلاصة ذلك أن لدينا ماض، وحاضر، ومستقبل، فالماضي مرده إلى من حضره وشاهده، وإثباته بسماع أو ما في حكمه، والحاضر مرده إلى الحس أعني أنه يشاهد، أو يسمع، أو يذاق، أو يشم، أو يلمس، وإثباته بالشهادة، أما المستقبل فلم يحس، وهو توقع لما يمكن أن يحدث، فهذا لا يقارن أبدا بما قد حدث، ولا اعتبار له في حكم له في الشريعة فيما نحن فيه.
تأملات حول إثبات الرؤية في زمن التشريع:
يتأيد ما تقدم لنا حينما نتأمل الأحاديث الواردة في ترائي الهلال على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن لدينا ثلاثة أحاديث:
الأول: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَأَيْتُ الْهِلَالَ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ نَعَمْ فَنَادَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ صُومُوا) رواه أبو داود والترمذي وغيرهم.
الثاني: عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ) رواه أبو داود وغيره.
الثالث: عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدِمَ أَعْرَابِيَّانِ فَشَهِدَا عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم بِاللَّهِ لَأَهَلَّا الْهِلَالَ أَمْسِ عَشِيَّةً فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا زَادَ خَلَفٌ فِي حَدِيثِهِ وَأَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ. رواه أبو داود والإمام أحمد.
فتأملوا أيها الكرام حديث الأعرابي، ثم بعده حديث الأعرابيين، هل استفصل منه النبي صلى الله عليه وسلم غير سؤاله عن إسلامه؟ هل سأله أكانت جهة الهلال للمشرق أم للمغرب؟ هل تثبت النبي صلى الله عليه وسلم من رؤيته، بأن قال احسبوا هل يظهر أم لا يظهر؟ هل عمل به إثباتًا ونفيًا، أم إثباتًا فقط؟ هل سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن معرفته بمنازل القمر؟ هل شك النبي صلى الله عليه وسلم في أنه رأى الزهرة أو كوكبا آخر؟ أو شعراً من رمشه سقط على عينه؟! هل اختبر النبي صلى الله عليه وسلم حدة بصره؟ لا، ولا، ولا،،،
وبعد، فهل أعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم أن فعله ذلك سيكون تشريعًا لأمته أن يفعلوا ما فعل؟ فإذا ما جاءهم أعرابي، وسألوه هل هو مسلم، فأجاب بالإثبات، قبلوا شهادته، ودخل الشهر بناء على ذلك، هل علم النبي أو لم يعلم بأنه سيأتي أناس يدلون بشهادات حول رؤية الهلال، وبعضهم كاذب، وبعضهم مخطئ، وواهم، وبعضهم رأى كوكبا آخر، وهكذا ... ومع ذلك لم نر النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إيماء أو تنبيهًا، فضلا عن تصريحًا، إلى وجوب عرض شهادتهم على علم الحساب حتى نتثبت من صدقهم، وعدم خطئهم.
ثم إني تأملت في هذه الأحاديث وأنا أسمع بعض الاتهامات تجاه الشهود الذين رأوا الهلال حيث يقول أصحابها، لم لم ير الهلال إلا هؤلاء الأشخاص، قلة في العدد، مع أن كثيرًا من الناس يترآونه؟
في الحادثة الأولى أعرابي، وفي رواية لأبي داود ثانية أعرابي من الحرة، يعني أن أعراب المدينة وأهلها من غيرهم عجزوا عن رؤيته!، وفي حادثة شهر شوال أعرابيان، ثم إنهما شهدا كذلك بما لم يشهد به الباقون، بل وغاب عن أهل المدينة كلهم حتى إن الأمر التبس عليهم!
خاتمة: