للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣ - يحتج البعض بأن من مات فقد أفضى إلى ربه، وقدم على عمله، وكأنهم بهذه الحجة يتورعون عن الخوض في الأموات، وتالله العلي العظيم إن هذا لهو الورع المقلوب، ويدل على موت القلب، وضعف الغيرة لله تعالى؛ إذ كيف يُترك زنادقة العصر وأذنابهم يجاهرون بشتم الله تعالى ورسله عليهم السلام، ويسخرون بالقرآن والشريعة، وتطفح دواوينهم بالكفر الصارخ، والإلحاد الظاهر، فإذا مات الواحد منهم، وناح عليه أتباعه ومريدوه تورع بعض الناس عن فضحه، وتحذير الناس منه؛ فأي ورع هذا؟

والقرآن مليء بالطعن في الأموات من المكذبين من قوم نوح وعاد وثمود وقوم شعيب وقوم إبراهيم وقوم لوط وفرعون وهامان وقارون وكفار مكة، ونزلت سورة تطعن في عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي لهب تُقرأ إلى آخر الزمان، مع أن المكذبين السابقين لم يقولوا ما قاله زنديقهم الهالك في الله تعالى ورسله عليهم السلام وكتبه وشريعته.

وأُثني بِشَرٍّ على جنازة منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقرهم على ذلك، وأخبرهم أن النار قد وجبت له، ولا زال الصحابة والتابعون والأئمة المهديون والعلماء الربانيون يفضحون أهل الضلال والانحراف، ويبينون حقيقتهم للناس، ويحذرون من أتباعهم ومقولاتهم ولو كانوا أمواتا، فلا حرمة لزنديق يجاهر بزندقته حيا ولا ميتا.

وبعض أهل الخير والعلم والدعوة يعتزل هذه المعتركات؛ إيثارا للسلامة، وطلبا للراحة، زعما منه أنه يشتغل بمجالات أهم وأولى، مع أن جهاد الكفار والمنافقين من أهم المهمات، وأعلى المقامات، وأمر الله تعالى به في قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ} [التوبة:٧٣] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة، وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددا فهم الأعظمون عند الله قدرا) اهـ (١) قلت: فكيف والفرض لا زال قائما، ولم يقم به من أهل العلم والدعوة من يكفي.

والاستعمار العسكري والسياسي والاقصادي لبلاد المسلمين يرفده استعمار فكري ثقافي يؤدي أكثره المنافقون والمرتدون، والحرب الفكرية فيه توازي -إن لم تكن أشد- الحرب العسكرية السياسية، وهزيمتهم في الحرب الفكرية الثقافية مؤذنٌ بهزيمتهم في الميادين الأخرى؛ فلينفر العلماء والدعاة والكتاب لنصرة دين الله تعالى، وردِّ الشبهات عنه، وكشف الطاعنين فيه، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، كما جاء في الحديث، وحماية الثغور العقدية والفكرية التي يحاصرها الأعداء خير من الترف العلمي، وأهم من تحقيق بعض المسائل الخلافية التي يسوغ الاجتهاد فيها، وأفضل من نوافل العبادات، وهو ضرب من ضروب الجهاد في سبيل الله تعالى.

وأقبح من الساكتين المعتزلين من يجامل الزنادقة والمنحرفين؛ لقوتهم وعلوهم في الأرض؛ أو ليكون له يد عندهم، أو ليسوِّغ عجزه وخوره وعدم قيامه بشئ، ولا يكون تسويغه إلا بالطعن في إخوانه ممن ندبوا أنفسهم لمحاربة الأفكار المنحرفة، والاحتساب على الزنادقة والمنحرفين، وهتك أستارهم، فيرمي إخوانه بالتعجل، أو أنهم أصحاب أحكام مسبقة، أو أن لهم مآرب أخرى في كشف زنادقة العصر، أو غير ذلك.

ونعوذ بالله تعالى من عجز أو هوى يحملان المصلين على الانحياز إلى صف الزنادقة والمرتدين، وترك إخوانهم، ولَأَنْ يكون الإنسان ذيلا في الحق خير من أن يكون رأسا في الباطل.


(١) زاد المعاد ٣/ ٥

<<  <  ج: ص:  >  >>