فمرحلة الخلافة الراشد تعد صورة زاهية في العقل الجمعي الإسلامي ونموذجا ملهما للأجيال المتطلعة للرقي السياسي ووقودا مفيدا في استنهاض الهمم الراكدة وهو النموذج الأكثر دقة ... والأجمل صورة ... والأروع منظرا ... والأبهى حلة ... والأقوى جاذبية ... والأشد بنيانا ... والأنقى منبعا ... والأبلغ تأثيرا.
وتبرز قيمة تجربة الخلاقة الراشد بالنسبة لأجيال الأمة اللاحقة بأمرين اثنين:
الأول: أنها تجربة بشرية فهي تشترك مع عموم الأمة بأنه لم تكن صادرة من المعصوم صلى الله عليه وسلم وإنما هي نموذج قائم على التطبيق البشري للتشريعات السياسية الإسلامية وهذا الحال يقربها من أجيال الأمة ويفتح الباب لتشوف الأمة إلى الإصلاح السياسي ويجعل ذلك أمر قريبا ومطلبا ممكنا ويسد المنافذ السلبية التي تصور الحكم السياسي الإسلامي بأنه غير متاح للتجربة البشرية.
الثاني: إنها تجربة غزيرة التطبيقات فقد شهدت مرحلة الخلافة الراشدة مشاهد سياسية جديدة وتغيرات كبيرة في طبيعة المجتمعات الداخلة تحت نطاق الحكم السياسي وتنوعات واسعة في العلاقات بين طبقات تلك المجتمعات واختلافات ظاهرة في ثقافتهم وأديانهم وتصوراتهم وسلوكياتهم وتعددات كبيرة في عرقياتهم وبلدانهم.
وهذه الغزارة ساعدت على توسيع المادة السياسية في تلك التجربة وعلى استيعابها لكثير من الإشكاليات فإذا أراد الباحث المعاصر أن يتحقق من تلك الغزارة فإنه سيجد شاهد ذلك في كمية القضايا السياسية التي ثارت في ذلك الزمن وسيقف فيها على أجوبة وحلول لكثير من القضايا التي هي محل بحث ومثار جدل في عصرنا.
ومن أمثلة القضايا التي نجد لها حلا في تلك التجربة: طبيعة العلاقة بين الحكام والمحكوم وتحديد الدوائر التي يسمح فيها للحاكم بالتحرك ودور الأمة والشعب في الشأن السياسي والموقف من التعددية السياسية والدينية وحكم إنشاء الأحزاب والمجالس النيابية والموقف من الترجيح بالأكثرية وتحديد مفهوم المواطنة وضوابطها وإيضاحا تاما لقضية الحقوق والأموال العامة وغيرها من القضايا.
فإذا اجتمعت هذه المادة الغزيرة مع الموروث الشرعي المعصوم فستكَوِنُ مخزونا شرعيا وسياسيا ضخما تستطيع الأمة من خلالها أن تبني مشروعا سياسيا ناضجا يخرجها مما هي فيه من الانحطاط السياسي ويرتفع بها إلى مستويات عالية من الرقي.
أنواع الموروث السياسي:
ينقسم الموروث السياسي الذي تتناقله الأمة عن العهد النبوي والعهد الراشدي إلى قسمين:
القسم الأول: الموروث الذي يحمل الطابع التشريعي وهذا النوع يأخذ أوصاف الأحكام العبادية الأخرى كأحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج من حيث وجوب الالتزام به ولزوم الاستمساك بصفته وحدوده وضوابطه.
فالتشريع السياسي في الإسلام ليس مجرد قضايا كلية فقط كالأمر بالعدل والمساواة والشورى وإنما يتضمن قضايا تفصيلية تتعلق ببعض شؤون السياسية ومتعلقاتها الجزئية.
وهذا الأمر ليس غريبا في التشريع فقد الشريعة جاءت في باب المعاملات بأصول كلية ومقاصد عامة تضبط الجزئيات الداخلة في نطاقها كالنهي عن الجهالة والغرر والربا ومع ذلك فقد جاءت بأحكام تفصيلية ملزمة تتحقق بها تلك المقاصد وتزيد من تأكيدها كالحال في شروط البيع وأنواع المبيعات وضوابط الإقراض والعقود ونحوها.
وكذلك هو الحال في المجال السياسي فهو لا يختلف عن غيره من المجالات الحياتية فالمادة التشريعية فيه ليست كلية فقط تشترك فيها كل المجتمعات وإنما فيها قدر كبير من المواد التفصيلية الملزمة.