ومما يدل على ذلك: أن مبدأ الحرية ليس مطلقا في الإسلام كما هو الحال في كل الأنظمة الأخرى وإنما هو مقيد بقيود تفصيلية تتوافق مع أصول الإسلام وأحكامه وقد حددت النصوص الشرعية تلك القيود وهذا نوع من التشريع التفصيلي الملزم في المجال السياسي.
وكذلك هو الحال في مبدأ المساواة فإن هذا المبدأ ليس مطلقا وإنما لا بد فيه من اعتبار الضوابط التي دلت عليها نصوص الشريعة ومقاصدها وهذا نوع من التشريع التفصيلي.
بل إن طبيعة العقد الذي بين الحاكم والمحكومين يأخذ في بعض تفاصيله الطابع التشريعي؛ لأنه عقد وكالة وهو من العقود التي جاءت الشريعة فيه بأحكام تفصيلية ملزمة.
وكذلك بينت الشريعة الأحكام التفصيلية المتعلقة بحكم الجمعة والجماعات والجهاد مع الحكام وضوابط الطاعة له والخروج عليه.
وقد ضيف بعض الإسلاميين دائرة الجانب التشريعي في المجال السياسي وتوصل إلى أن الإسلام لم يأت فيه إلا بأصول كلية ومبادئ عامة فقط كالأمر بالعدل والمساواة والحرية والشورى.
ونحن إذا رجعنا إلى الموروث السياسي في الشريعة نجد أنه احتوى على مادة تشريعية تفصيلية كبيرة تساعد على انتظام المجال السياسي مع الأنظمة الأخرى التي جاءت بها الشريعة فهي لم تترك كل ضوابط الحرية لتجارب الناس يقيدونها كيف شاؤا على حسب تجاربهم وإنما أقامت ضوابط عديدة تجعل الحرية المتاحة منسجمة مع المجالات الأخرى ومتوافقة معها.
القسم الثاني: الموروث الذي يحمل الطابع الإجرائي وهو عبارة عن الأمور التي دخلت في الخطاب السياسي لأجل مصلحة تنفيذ الحكم الشرعي وانضباطه لا لأجل الإلزام به فهي أمور لم يرع فيها الجانب التشريعي وإنما روعي فيه الجانب التنفيذي.
ويدخل في هذا النوع القضايا المتعلقة بالشكل التطبيقي للدولة والآليات التنفيذية والتراتيب والوسائل التي تتحقق بواسطتها الأحكام التشريعية والمقاصد الكلية.
فشكل الدولة وآليات التنفيذ فيها ليست أمورا توقيفية ملزمة وإنما هي مصالح مرسلة راجعة إلى مراعاة الموارنة بين المصالح والمفاسد وهي أمور متروكة لقدرات الأمة ومهاراتها على التطوير والتجديد والبحث على المناسب والمفيد.
وليس معنى هذا إغلاق باب الاستفادة من الأمور الإجرائية التي كانت في العهد النبوي والراشدي وإنما غاية ما يدل عليه كشف طبيعته وبيان منزلته فقط.
وعدم التمييز بين هذين النوعين - التشريعي والإجرائي- يعد أحد أهم الأسباب التي أدت إلى كثير من الالتباس والاضطراب في تحرير الخطاب السياسي في الإسلام وأضحت كثير من القضايا مثار جدل ومحل اختلاف نتيجة تلك الرؤية الملتبسة التي لم تستطع أن تميز بين طبيعة الأنواع الداخلة في الموروث السياسي وهذه الإشكالية كان لها حضور مؤثر منذ زمن بعيد في الفكر الإسلامي وقد ذكر ابن القيم طرفا من الخلاف فيها ثم وصفها بوصف بليغ يكشف عن مدى خطورتها وأثرها فقال:"وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام وهو مقام ضنك ومعترك صعب " (الطرق الحكمية ١٣).
ويتطلب الإنقاذ السياسي قدرا كبيرا من إدراك الفوارق المؤثرة بين النوعين - التشريعي والإجرائي- ومهارة فائقة في الموازنة بينها والبلوغ إلى هذا التمييز يعد أحد المرتكزات الأساسية للوصول إلى النموذج السياسي الملهم ومتى ما بقيت الصورة في حالة الالتباس فإنه ستتحول بعض القضايا التشريعية إلى أمور مصلحية غير لازمة وتغدو بعض القضايا الإجرائية المصلحية أمورا تشريعية ملزمة وهنا يقع الخلط والاختلاط والتضارب في الرؤية الإسلامية السياسية.
المكتسبات الرفيعة: