الانطلاق في الإنقاذ السياسي للعالم العربي والإسلامي من المخزون السياسي الشرعي يحقق مكاسب عالية الجودة ورفيعة المستوى وبالغة القدر وعميقة التأثير والمكاسب التي يمكن استخلاصها متعددة الفروع ولكنها ترجع إلى ثلاثة مكاسب رئيسة.
المكتسب الأول: الظفر بالقوة الدافعة: تحتاج المشاريع التي تقصد إلى التغيير الجذري في البنى المجتمعية إلى مادة روحية عالية التأثير وقوية الإشعاع حتى تتمكن من أداء وظيفتها على المستوى المطلوب ومتى ما فقدت تلك المشاريع المادة الروحية فإنها ستتحول إلى قوالب جامدة قليلة التأثير أو عديمته وقد شهد التاريخ نماذج تؤكد هذه النتيجة فإن أنظمة الشيوعية لم تتجذر في المجتمع؛ لأنها ألغت كل القوى الروحية الدافعة للعمل والداعية للاقتناع بالتنظيمات فكان مصيرها الفشل الذريع.
والحالة في هذا الارتباط حالة طردية، فكلما ازدادت المادة الروحية جمالا وقوة وعلوا وحيوية ازداد تأثيرها وفعاليتها في النفوس ودفعتها إلى العمل والامتثال للقيم والمبادئ.
وهنا تبرز خاصية الإسلام في صياغة أنظمته المجتمعية فهو لم يقدمها جافة فارغة وإنما شبعها بالروح الدينية الدافعة التي تحقق القناعات الذاتية لدى أفراد المجتمع وتسيره نحو امتثال قوانينها وتشريعاتها بقوة داخلية لا خارجية ... جاء الإسلام بتلك الروح التي تحمل كينونة خاصة تخاطب الوجدان الإنساني وتمتاز بالحيوية والنشاط والإيحاء بالحقائق الكبرى وتخاطب الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذها.
إن المنطلق الديني الذي يختزنه الموروث الشرعي السياسي هو المنطلق الذي قلب أحوال العرب في الجاهلية وانتزع منهم رواسب الظلم والجهل والبغي والاستبداد وحولهم إلى نماذج مختلفة في تصوراتها وسلوكها وعلاقاتها.
إن الروح التي استطاعت فعل ذلك تستطيع أن تؤثر في المجال السياسي لدينا فتخرج لنا النموذج الملهم .. النموذج الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فالقوة في المخزون السياسي ليست منحصرة في الجانب المعرفي والقيمي فقط بل تتعدى ذلك إلى الجانب الروحي فهو يمتلك طاقة روحية عالية تسيطر على القلوب والأرواح وتدفعها نحو الامتثال والإصلاح وتدعوا الأمة إلى أن تقول كلمة الحق وتنصح للحاكم وتحاسبه وتقومه إذا اعوج ولا تخاف في الله لومة لائم. فالانطلاق من عدل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أبلغ في التأثير في نفوس الناس من الانطلاق من النظام الديمقراطي والابتداء من حفظ النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين للأموال العامة أعمق في الأثر من الابتداء من النظام الديمقراطي.
إن إبراز هذه النماذج العالية في الموروث الشرعي يحقق الضمانات القوية في المحافظة على الحقوق والأموال العامة لما يمتلكه من القوة الروحية مما لا يوجد في غيره من الأنظمة.
وقد أثار عدد من المفكرين العرب سؤالا عن مقدار الضمانات التي يمتلكها النظام الديمقراطي للمحافظة على مقدرات الشعوب وعلى امتثال العدل في الممارسات الفعلية وتوصل د/ راشد الغنوشي إلى أن المبادئ الديمقراطية لم تستطع "كبح جماح الفئات القوية الضاغطة عن التحكم والإفساد وتسخير السلطة لإفراغ جملة الضمانات التي قدمتها الديمقراطية من محتوياتها" (الحريات العامة٢/ ١٠).
وأكد على أن النماذج الغربية للديمقراطية تمارس استبدادا ناعما وفداحة كبيرة في النهب المنظم لأموال الناس وقال:"رغم أهمية الآليات الديمقراطية ومبادئها ... فإنها لئن وضعت حدا لكثير من ضروب العنف السافرة كالتي كانت عليها الأنظمة الديكتاتورية فإنها لم تضع حدا بل لم تخفف إن لم تكن فاقمت من ضروب العنف الخفية" (السابق ٢/ ١١).