للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكل هذا يؤكد لنا خطورة الفراغ الروحي الذي يعاني منه النظام الديمقراطي ويؤكد أهمية البعد الديني والروحي الذي تشبع به المخرون السياسي في الشريعة وضرورة استحضاره في الإصلاح.

ومتى ما ابتعدنا عن الخطاب الشرعي المشبع بالروح الدينية وذهبنا نعتمد على الأنظمة الفارغة من تلك الروح وغدونا نظهر للناس ونبشرهم بأنظمة مفتقرة إلى تأسيس شرعي في أصلها ومحتاجة إلى الامتداد التاريخي الديني نكون في الحقيقة قد تخلينا عن نقطة القوة في الإصلاح السياسي ومنبع الاقتداء وشرط النجاح.

إننا بحاجة ملحة في هذا العصر الذي شُوه فيه الخطاب السياسي في الإسلام وغيبت فيه كثير من معالمه وصوره وأقيمت في طريق الوصول إليه عقبات وعقبات نحن في حاجة أن نعود إلى الروح الدافعة التي بثها النبي صلى الله عليه وسلم في الوجود ونسعى إلى التشبع منها وبثها في الواقع مرة أخرى.

المكتسب الثاني: الوقوف على النموذج الملهم: إن التوجه نحو المخزون السياسي الشرعي - سواء النبوي منه أو الراشدي- والحرص على استيعابه وجمع كل مفرداته وتطبيقاتها المشرقة وإعمال النظر في نصوصه والبحث في كنوزه والتنقيب عن أصوله سيوصل إلى النموذج الصافي من كل ما يكدر صفوه.

وبذلك تتحقق الركيزة الأولى من الركائز التي يقوم عليها الإصلاح السياسي في المجتمع المسلم فكما أن التجديد في مجالات البيع والشراء والمعاملات لا يبدأ من الاعتماد على النماذج الخارجية وإنما يتطلب أولا إبراز النموذج التشريعي الكامل وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم تحاكم إليه النماذج والتجارب الأخرى ليحصل بينها التلاحق والتبادل ... فكذلك الحال في المجال السياسي فإن الخطوة الأولى في مشروع تجديده وإنقاذه لا تكون بالانطلاق من النموذج الديمقراطي أو غيره وإنما تبتدئ أولا من إبراز النموذج السياسي الذي قدمته الإسلام وتحديد معالمه ومبادئه وتفصيلاته التشريعية والإجرائية ثم بعد ذلك يتم التوجه نحو تجارب الأمم الأخرى ليحصل بينها وبين ما قدمته الشريعة من تلاحق وتبادل.

والوصول إلى النموذج الملهم يحقق لنا من جهة أخرى الشروط التي يجب توفرها في المشاريع المتعلقة بمصير الأمة فإن هذا النوع من المشاريع يجب أن يكون متصفا بوضوح المنطلق وسلامة المأخذ وقوة الأدلة وانضباط المصطلحات ووضوح المقدمات وجلاء المآلات لأنها لا تقبل أنصاف الحلول ولا الضبابية ولا الإجمال؛ إذ هي متعلقة بمصير الأمة ومن أكبر من يحق لنا تلك الشروط:

هو أن نقف على النموذج البنوي والراشدي في المجال السياسي بصورته الحقيقية وبإدراك ناضج واعٍ مستوعب لحدوده ومعالمه وضوابطه.

وفائدة أخرى نكتسبها من الوقوف على النموذج الكامل وهي إبراز النموذج العادل الذي أسعد الناس وحافظ على حقوقهم من أقوى ما يكشف زيف الأنظمة المستبدة الظالمة, ومن أصلب ما يرفع الستر عن خوائها الداخلي ويقلل من مشروعيتها فتلك النماذج الكاملة تمثل كابوسا مخيفا للمستبدين وغصة في حلوقهم وشهادة تاريخية على إفلاسهم وقد ذكر ابن كثير في تاريخه أن الحجاج وسيده عبدالملك بن مروان كانا ينهيان عن ذكر سيرة عمر بن الخطاب ويقولان:"إنها مرارة للأمراء ومفسدة للرعية" (البداية ٩/ ٦٦)

وهذا الحال يدعونا على مراجعة صادقة لمنطلقاتنا الإصلاحية السياسية وغيرها, ويدفعنا إلى الإلحاح بالسؤال: هل من الأفضل أن تعلق الأمة بالنماذج الكاملة التي تمثل البعد الشرعي وتحقق الامتداد التاريخي لها, أم تعلقها بالنموذج الديمقراطي الذي يعاني من انفصام نكد بين النظرية والتطبيق ويتألم من تشويهات تطبيقية عديدة على أكثر من صعيد وفي أكثر من بلد.

<<  <  ج: ص:  >  >>