قلت قبل قليل: إن المشروع السياسي لا يتدخل كثيرًا فيما إذا لم يكن من الحاكم كفر بواح، وأقول هنا: إنه إذا وُجِد الكفر البواح, أو حين يكون النظام من الظلم بحيث لا يمكن حالًا أو مآلًا أن تتحقق على يديه مقاصد الشريعة، فإنهم لا يحرمون العمل ضده, ولكنهم يتحرزون أشد التحرز في أخذ عُدَد التمكن والاستطاعة؛ لأن العمل دون تمكن ودون استطاعة خطير الأثر من حيث المآلات القريبة والبعيدة, كما أن نظامًا من هذا النوع يعسر تحت رايته, بل ربما يستحيل تطبيق المادة الأولى والأهم من المشروع السلفي، وهي تديين المجتمع وتعبيده لله سبحانه وتعالى, فإذا استحال في ظل نظام ما التحرك السلفي لإعادة المجتمع إلى مفاهيم الإسلام وقيمه، استحال بالتالي ما يترتب على هذه العودة وهو الإصلاح السياسي، وهنا يكون التغيير السياسي بشتى طُرقه متاحًا ومباحًا، ما لم يغلب على الظن إفضاء محاولات التغيير إلى شر هو أعظم مما يمكن من الخير.
أين الثورات الشعبية الحالية من هذا كله:
لا السلفيون ولا غيرهم كانوا وراء قيام هذه الثورات الشعبية، وقد كانت كما يقول الكثيرون مفاجِئَةً للجميع حتى من أيدوها فور حدوثها، ومن شاركوا فيها, وكان السلفيون حين قامت هذه الثورات مشغولين حقًّا بمشروعهم الدعوي العلمي بشكل يبعث إعجاب محبيهم، وسخط شانئيهم، فلهم قنوات فضائية عديدة تستقطب جمهورًا عريضًا في الوطن العربي كله، رغم محدودية مواردها، وبساطة قدراتها الإعلامية, ويُشرفون على مواقع إلكترونية ذات تخصصات مختلفة تغطي أكثر احتياجات المستهلكين لخدمات الإنترنت، من موسوعات علمية إلكترونية، ومنتديات تخصصية، ومنتديات أخرى حرة وغرف بالتوك متخصصة في العقائد، وأخرى في الاستشارات, وصحف تعد من أكثر مواقع الإنترنت زيارة وتأثيراً, كما يقومون على الكثير من المساجد التي استطاعوا أن يُعيدوا لها رسالتها الدينية والاجتماعية, ناهيك عن الجهود التطوعية التي وصلوا بها إلى قلوب الأرامل والأيتام والمعوزين في جميع الأقطار, والعجيب في جهودهم أنها سريعة التأثير عظيمة البركة، فلا يُحصى عدد من تحصن بسببهم من بدعة الرفض, أو أنقذه الله تعالى بعلمهم من شرك القبورية, أو أعاذه الله بإخلاصهم من شرك العلمنة، أو فخ التحرر والليبرالية, كما لا يُحصى عدد ما أبطلوه من الخرافات المتوارثة، والخزعبلات الرائجة, هذا إضافة إلى من أدخله الله بفضل جهدهم في دين الإسلام، وأخرجه من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان.
حقًّا لقد كان السلفيون يسيرون بالمجتمعات العربية بهدوء وتؤدة إلى طريق النجاح والنجاة، مكتسحين كل ما يقابلهم من عقبات بحكمة المؤمنين المخلصين لربهم فيما يقولون ويفعلون.
شهد بنجاح السلفيين في مصر بعض المعتاشين على رواج الخرافات، وشيوع الشركيات من نصابي الموالد، وسدنة المقابر، وسماسرة إيران حين عقدوا مؤتمرًا شارك فيه بعض الأزهريين لمناقشة الخطر السلفي على المسلمين والعالم، وانتهى المؤتمرون إلى أن السلفيين أخطر على الإسلام من الصهاينة، وأنه إن لم يقف مدهم فسوف يُعاني العالم من وجودهم أمر العذاب.
كان هذا المؤتمر أنموذجًا لضريبة النجاح التي يدفعها السلفيون, وشهادةُ تفوق يرفعها من يشعر على وجوده بالخطر، حين يدهمه صاحب الحق ويدمغه.
قامت هذه الثورات، وهذا الحال من النجاح هو ما يَعيشه السلفيون فماذا فعلوا؟
لم يختلف منهج السلفيين وطريقتهم, فقد نظروا إلى هذه الثورات نظرة فقهية، كما هي قاعدتهم التي قدَّمت بيانها، وحقًّا قد اختلفوا في حُكمها الشرعي نظرًا لاختلافهم في تنزيل الدليل، واختلافهم أيضًا في تقدير المآلات، ومنهم من شارك فيها، ومنهم من توقَّف، ومنهم من أبى.