للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النوع الثالث: الهجر قضاء، وهو من العقوبات التعزيرية للمعتدين، وهذا يبحثه الفقهاء في باب التعزير. [من رسالة (هجر المبتدع)، مرجع سابق، بتصرف].

وجعل شيخ الإسلام -رحمه الله- أنواع الهجر في الشرع قسمين، فقال:

(الهجر الشرعي نوعان:

أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات.

والثاني: بمعنى العقوبة عليها.

فالأول: هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: ٦٨]، .. فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك

النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، يهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم، حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر) [((مجموع الفتاوى)) (٢٨/ ٢٠)].

صفات الهجر:

الأصل في الهجر هو الإعراض عن المبتدع والبراءة منه. ومن مفرداته تركُ: مجالسته، ومجاورته، وتوقيره، ومكالمته، والسلام عليه، والتسمية له، وبسط الوجه له، وسماع كلامه، ومشاورته .. كل ذلك بقصد إصلاحه إذا عُلم تحقق ذلك؛ أما إذا عُلم فساد حاله أكثر أو تضييع مصلحة المسلمين فتقدر الأمور بقدرها.

وللهجر الشرعي ضوابط، منها:

١ - لا بد أن يؤدي هذا الهجر إلى الهدف الذي شرع من أجله، وهو الإقلاع عن هذه البدعة، وإلى عدم فعل ما يشبهها من قبله، أو من قبل غيره، أما إذا كان المبتدع لا يزيده الهجر إلا تمادياً في السوء، وركوناً إلى أهل السوء، أو غير ذلك من المفاسد فإنه لا يهجر.

فالمؤمن كالطبيب إذا رأى العلاج نافعاً فعله؛ لأن الهجر من باب العلاج، فإن كان الهجر يؤثر خيراً وينفع هُجر، وكان ذلك من باب العلاج لعله يتوب ويرجع عن خطئه إذا رأى من إخوانه أنهم يهجرونه، أما إذا كان الهجر يسبب مزيداً من الشر وكثرة أهل الشر وتعاونهم فإنه لا يهجر، ولكن يديم له النصح والتوجيه وإظهار الكراهة لما عمل، ولا يبين له موافقته على باطله، ولكن يستمر في النصيحة والتوجيه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به -يعني الهجر- زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولاغيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ... وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع -كما كثر القدَر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة- وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه) [((مجموع الفتاوى)) (٢٨/ ٢٠٣)].

ولو أن طالب علم مثلاً ذهب إلى أهله في بادية بعيدة وخاصة التي يغلبُ عليها البدع، فوجدهم يفعلون ما يفعلون من البدع، فقال: أنا أعرف أن من أصول أهل السنة والجماعة هجر أهل البدع فلنهجرهم، فإنه لن يدع أحداً إلا هجره؛ لأن الناس ألفوا هذه البدع وعاشوا عليها، فيصير هو المنكر المهجور؛ لأن الهاجر في هذه الحالة ضعيف والمصلحة لا تتحقق، والمشكلة ليست في عدم قيام طالب العلم بالإنكار أو عدم هجره لأهل البدع، ولكن المشكلة أن المصلحة الشرعية غير حاصلة. [من رسالة (هجر المبتدع)، مرجع سابق، بتصرف.]

٢ - الهجر الشرعي عبادة من جنس الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعبادة لا بد من توفر ركنيها: الإخلاص، والمتابعة، أي بأن يكون الهجر خالصاً صواباً، خالصاً لله صواباً وفق السنة، وإن هوى النفس ينقض ركنية الإخلاص، كما أن ركن المتابعة ينقضه عدم موافقة الهجر للمأمور به.

٣ - هجر المبتدع ليس عاماً في كل حال ومن كل إنسان ولكل مبتدع، كما أن ترك الهجر والإعراض عنه بالكلية، تفريط، وهجر لهذا الواجب الشرعي المعلوم وجوبه بالنص والإجماع، وإن مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد، وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها، واختلاف مبتدعها، واختلاف أحوال الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة والكثرة، فلا بد من مراعاة كل هذا.

<<  <  ج: ص:  >  >>