وما يجري في السودان فقد سبق مثله في التاريخ القريب من تقسيم الشام، وهذا يحتم على عقلاء السودان وأهل الحل والعقد فيه أن يتأملوا الموقف ومآلاته.
وما ينشط من طوائف من هنا وهناك فقد نشطت مثيلاتها فدراسة عوامل ذلك وفق تلك السنن تفرض على العقلاء الوعي التام، وعدم التساهل والتغاضي، وما تنتشر من أفكار مخالفة للدين -وإن حاول أصحابها أن يُلَبِّسوها لباسه - فهم أول من يدرك أن الآخرين يعلمون منهجهم وطريقة تفكيرهم وكثيرا من سلوكياتهم، أقول في التاريخ القريب مر مثل ذلك وما فكرة القومية العربية عنا ببعيد ولم تفلح في إنقاذ الأمة العربية. وقل مثل ذلك في المشكلات الاقتصادية والتربوية والاجتماعية.
وهمسة هنا لأهل الدعوة أن يعو جيدا هذا المنطلق فالمسألة ليست عواطف, ولا مواقف للتسابق، ولا أمجادا شخصية، أو تشبعًا بما لم يعط. فالمرحلة ليست كسابقتها وفي التاريخ عبرة. (فليتأمل).
الثالث: يجتمع في تلك الأحداث الأقدار الكونية، والأقدار الشرعية، وللإسلام منهج في التعامل معهما يجمعها الإيمان بما وقع ومن ثم حسن التعامل معها وفق المنهج الشرعي، وما تقتضيه قواعد المصالح والمفاسد، من منظور أهل الحل والعقد، والعقلاء والحكماء، وأهل التخصص، والخبرة.
ولعل من ما يندرج في ذلك:-
عدم تفسير الظواهر بالمنظار الأولي وإن كان يتوافق مع العواطف، أو الرغبات الكامنة في النفوس، فلا شك أن مثل هذه الأحداث بقدر الله تعالى، لكن الله جل وعلا علمنا الربط بين الأسباب ومسبباتها، ومما يؤكد ذلك قوله تعالى:] إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [. وعليه فلن تتغير المجتمعات إلى الأحسن، أو ترقى رقيا يطغى على المصالح الذاتية، والحزبية, ما لم يتغير الناس نحو التعامل مع سنن الله الشرعية، فالله جل وعلا أمر بعبادته، وبحسن الاعتقاد تجاهه، وبمكارم الأخلاق، وضرورة التعامل الاقتصادي وفق شرعه، ومعالجة المشكلات الاجتماعية من منظور الكتاب والسنة، والمناهج التربوية من منطلق مفردات التأصيل الشرعي .. أزعم أنه إذا لم يتغير الناس وفق هذه السنن لن تتبدل أحوالهم نحو الأصلح والأمثل لمجرد ذهاب شخص وإتيان آخر، وإن تغنى من تغنى بذلك.
وفي الوقت نفسه ما لم تتجه الأنظمة نحو القيم العليا، والعدل، وإعطاء الحقوق، وتجنب الظلم والاعتداء على حقوق الناس وأموالهم، والنظر إلى المصالح العليا على حساب المصالح الخاصة والذاتية والفردية والحزبية.
ما لم يكن كذلك فالمعادلة واحدة، والنتيجة واحدة، من استمرار السلبيات, وتفاقم المشكلات.
الرابع: هذه الأحداث تجلّي عظم المسؤولية على أهلها، واستجلاب النصوص المعظمة لذلك، وكلما كبرت الأعمال زادت المسؤولية، فلنتأمل قوله تعالى:] إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا [وقوله عليه الصلاة والسلام (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وغيرها من النصوص.
هذا يحتم على أهل المسؤوليات استشعار عظم المسؤولية وما تقتضيه هذه المسؤولية من أعمال يجب أن يقوموا بها، ابتداء بمسؤولية الفرد عن نفسه، وانتهاء بمسؤوليات الولاة والعلماء لأنها أعظم المسؤوليات.
في هذا الشعور - أعني الشعور بالمسؤولية - تتولد القيم العليا السابقة ومن أعظمها: شدة الحرص على هذه القيم، وإيجاد السبل للقيام بها، وأحياؤها في النفوس، وتمثلها في الواقع، فالحاكم، والوزير، والمدير، والعالم، والقاضي، والموظف، والمؤتمن على الأموال، والداعية، والمعلم, ورب الأسرة (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته).