٥. ومات القائد والرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وكانت المصيبة العظمى في تاريخ الأمة، وهام الصحابة على وجوههم، ولكن أبو بكر فهم الأمر فهما عميقا لذلك صار أكمل الأمة إيمانا:" من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت "، ما كان قوله هذا إلا لإيضاح أن هذا الإسلام ليس مرتبطا بأحد، وإلا لانتهى بموته صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مرتبط بالله فقط، ورتل الآية التي أنزلها الله يوم أحد يوم أُعْلِنَ موتُهُ صلى الله عليه وسلم فاتنبه لذلك الصحابة فبين الله لهم أن محمدا بشرٌ يجري عليه شئون الكون مجريها، وأن الجهاد يكون لله والنصر بيد لله ليس بيد أحد من مخلوقاته:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} .... [آل عمران: ١٤٤].
٦. وتكالب الأعداء مرة أخرى على هذه الأمة من خلال فئات ثلاث: الفئة الأولى: مانعو الزكاة وأصر أبو بكر على محاربتهم. والفئة الثانية: حروب الردة وحاربهم أبو بكر حتى قضى عليهم. والفئة الثالثة: الروم على حدود الدولة وأنفذ لهم أبو بكر جيش أسامة، وعندما دخل عليه الفاروق بأمر من أصحابه بأن يكف عن إرسال جيش أسامة لحاجة المدينة لمن يحميها قال رضي الله عنه قولته المشهورة:" والله لو أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة، وأن الكلاب جَرَتْ بأرجل أمهات المؤمنين ما رددت جيشا وجّهه رسول الله ولا حللت لواءً عقده، والله لو لم يكن في القرى غيري لأنفذته، أو أطيعه حيا وأعصيه ميتًا؟! " لأنه كان واثقا في نصر الله لهذه الأمة مهما تكالب عليها أعداؤها ومهما رأى المثبطون أن الأمة ضعيفة عن مواجهة كل هذا الكم من الهجمات، لذلك مات رضي الله عنه بعدها بسنتين وجيوشه تغزو في اليرموك.
٧. وفي بدايات القرن الرابع الهجري دخل القرموطي كما يروي لنا ابنُ كثير بيت الله الحرام يوم التروية، ووقف هو وجنوده في ساحته يفتكون بالحجيج وبكل من تعلق بأستار الكعبة، وما فتئ يقول: أنا اللهُ أنا الذي أحي أنا الذي أميت، أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ واقتلع ـ عليه من الله ما يستحق ـ الحجر الأسود وأخذه معه إلى خراسان، حتى عاد إلى مكانه بعد ثلاث وعشرين سنة. هل هزم الإسلام؟ هل وقف الطواف طيلة هذه المدة؟ لأن الإسلام ليس مرتبطا بمدينة ما وإنما هو مرتبط بالله لا غير.
٨. وفي عام اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل الصليبيون بيت المقدس، ويصور دخولهم وما فعلوه ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: " استحوذ الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل ـ أي: مليون ـ فقتلوا في وسطه أزيد من سبعين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا. قال ابن الجوزي وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلا من فضة زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنورا من فضة زنته أربعون رطلا بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلا من ذهب، وذهب الناس على وجوههم هازعين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة