للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونوقش هذا الاستدلال بعدم التسليم؛ وذلك لأن الوديعة وإن كان المقصود ردها عند الطلب، إلا أنه يقصد بها أيضاً عدم التصرف فيها، وأموال الحسابات الجارية يتصرف فيها المصرف بمجرد استلامها ثم يرد بدلها، وهذا ينطبق على القرض بمعناه الشرعي لا على الوديعة (١).

(٢) أن المصرف لا يتسلم هذه الوديعة على أنها قرض، بدليل أنه يتقاضى أجرة (عمولة) على حفظ الوديعة تحت الطلب، بعكس الوديعة لأجل التي يدفع هو عليها فائدة (٢).

ونوقش بأن الأجور التي يأخذها المصرف من صاحب الحساب الجاري لا يُسلم على أنها في مقابل الحفظ، بل هي في مقابل الخدمات التي يقدمها المصرف لصاحب الحساب؛ كإصدار دفتر الشيكات، وبطاقة السحب الآلي، وكشوف الحساب وغيرها من الخدمات، مع أن الواقع أن أغلب المصارف لا تأخذ أجوراً في مقابل فتح الحساب.

(٣) أن المصرف يتعامل بحذر شديد عند استعمال أموال الحسابات الجارية والتصرف فيها، ثم يبادر بردها فوراً عند طلبها مما يدل على أنها وديعة (٣).

نوقش بأن هذا التصرف من المصرف لا يغير من حقيقة العقد، والواقع أن المصرف يتصرف في مال الحساب الجاري بخلاف ما ذُكر حيث يقوم بخلطها بماله ومال العملاء الآخرين بمجرد استلامها، ثم يتصرف فيها كما لو كانت ملكه.

وأما كونه يبادر بردها عند طلبها فهذا لا ينفي كونها قرضاً؛ لأن المقرض له طلب بدل القرض في الحال مطلقا (٤)؛ لأن القرض يثبت في الذمة حالاً فكان له طلبه كسائر الديون الحالة، ولأنه سبب يوجب رد المثل أو القيمة فكان حالاً (٥).

وكذلك فإن المبادرة بردها عند طلبها فيه حفاظ على سمعة المصرف، وتحفيز للتعامل معه، وفي هذا التعامل فوائد ترجع إلى المصرف، كما هو معلوم.

(٤) أن المودع عندما يدفع المال في الحساب الجاري للمصرف لا يقصد أبداً أن يقرض المصرف، ولا أن يشاركه في الأرباح العائدة للمصرف من استغلال لمال المودع ومال غيره، وإنما مقصوده - أي المودع - حفظ ماله ثم طلبه عند الحاجة إليه وهذا مقتضى عقد الوديعة؛ فلا يسمى فعله إقراضاً (٦).

نوقش بأن كون المودع لا يقصد إقراض المصرف لا يؤثر في حقيقة العقد؛ لأن عامة المتعاملين مع المصارف لا يدركون الفرق بين معنى القرض ومعنى الوديعة، ولا يستحضرون الفروق بينهما، فهم لا تهمهم المصطلحات بقدر ما تهمهم النتائج والغايات، والحاصل أن المتعاملين مع المصارف بوضع أموالهم في الحسابات الجارية يريدون حفظ أموالهم مع ضمانها من المصرف، وهذا في حقيقته قرض لا وديعة، ومن المعلوم كذلك أن المصرف لا يقبل حفظ هذه الأموال إلا لأجل التصرف فيها، وهذا هو معنى القرض، والقاعدة أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني (٧).

الترجيح:

الذي يترجح - والعلم عند الله تعالى - أن الأموال التي يضعها أصحابها في حساب جارٍ لدى المصرف الأقرب أنها قرض وليست وديعة، وذلك للأسباب الآتية:

١ - أن تعريف القرض وأحكامه متمشية مع هذه المسألة؛ فقد عرف القرض بأنه "عبارة عن دفع مال إلى الغير؛ لينتفع به ويرد بدله" (٨)، ومال الحساب الجاري يدفعه صاحبه إلى المصرف، لينتفع به ويرد بدله.


(١) ينظر: المنفعة في القرض (ص٣٠٤).
(٢) ينظر: الودائع المصرفية (ص٢٣٣).
(٣) ينظر: الودائع المصرفية (ص٢٣٤).
(٤) ينظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف (١٢/ ٣٣٢)، كشاف القناع (٣/ ٣١٤).
(٥) ينظر: كشاف القناع (٣/ ٣١٤).
(٦) ينظر: الودائع المصرفية (ص٢٣٣، ٢٣٤).
(٧) ينظر: مجلة المجمع (ص٧٩٥).
(٨) الإنصاف (١٢/ ٣٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>