للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢ - أن صاحب الحساب الجاري يعلم أن المصرف الذي يتلقى ماله لن يحتفظ له بهذا المال ساكناً مستقراً في صناديقه ليعيده بعينه عند الطلب، بل إنه سوف يختلط بغيره من الأموال وبأموال المصرف، كما أن المصرف سوف يستعمل هذه الأموال في أعماله واستثماراته، وهذا يعني أن المصرف لن يعيد عين المال، بل يعيد مثله عند الطلب، وهذه الأموال في حقيقتها قروض لا ودائع (١).

٣ - أن صاحب المال إذا وضعه في حساب جارٍ لا يقصد مجرد الحفظ فقط، بل يريد الحفظ والضمان معاً، بدليل أنه لا يقوم على الإيداع ما لم يكن المال مضموناً، وكذلك المصرف لا يقبل هذه الأموال لحفظها فقط، بل للانتفاع بها مع ضمانها، وهذه حقيقة القرض.

٤ - في القرض يضمن المقترض، وفي الوديعة يضمن المودع - ما لم يكن المودع مفرطاً - وكل منهما ضامن لأنه مالك، وعلى هذا فالوديعة في العرف المصرفي القائم قرض في الشرع الإسلامي (٢)

٥ - أن القاعدة الفقهية المشهورة نصت على أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وتسمية هذا العقد بين صاحب المال والمصرف وديعة لا يغير من حقيقة العقد وأنه قرض، وإنما سمي وديعة أو إيداعاً لأسباب منها (٣):

أ- أن هذه الكلمة استعملت بمعناها اللغوي؛ فإنها فعيلة من "ودع يدع: بمعنى أنها متروكة عند المودع، وهو المصرف هنا بغض النظر عن كونها أمانة أو مضمونة.

ب- لأن تأريخها بدأت بشكل ودائع وتطورت خلال تجارب المصارف واتساع أعمالها إلى قروض؛ فظلت محتفظة من الناحية اللفظية باسم الودائع، وإن فقدت المضمون الفقهي لهذا المصطلح، وعليه فاستخدام لفظ "ودائع" بدلاً من "قروض" إنما كان صحيحاً في مرحلة تأريخية من مراحل التطور المصرفي، حيث كان الناس يودعون نقودهم عند الصائغ أو الصيرفي مقابل أجر يتقاضاه، لكن عندما بدأ هؤلاء الصيارفة باستغلال هذه الأموال وبإقراضها إلى غيرهم أو استغلالها، لم تعد هذه العمليات ودائع، وكان ينبغي منذ ذلك الوقت هجر هذه التسمية وتركها لعمليات أخرى؛ (كإيداع الأشياء الثمينة) والانتقال إلى التسمية الحقيقية قروض.

وإذا أغفلت البنوك الروية هذا فحري بالمصارف الإسلامية أن تتنبه لهذا، وألا تقلد البنوك الربوية في هذه التسمية وغيرها، سواء كان ذلك في المقاصد والمعاني، أم في الألفاظ والمباني.

المبحث الرابع: الإشكالات الواردة على تخريجها قرضاً:

على القول الراجح بأن الأقرب في أموال الحساب الجاري تخريجها أنها قرض لا وديعة، قد يرد من الإشكالات ما يلي:

الإشكال الأول: إن الأصل في مشروعية القرض هو الإرفاق، وأدلة مشروعيته تؤكد هذا، ولذا عرفه بعض الفقهاء بأنه: دفع مال إرفاقاً لمن ينتفع به ويرد بدله (٤).

ومن المعلوم أن الذين يدفعون أموالهم إلى المصارف - على شكل حسابات جارية - لا يقصدون الرفق بالمصارف والإحسان إليها، والمصارف ليست فقيرة أو محتاجة حتى تقرض، وإنما يريدون نفع أنفسهم بحفظ أموالهم ثم طلبها عند الحاجة.

الجواب: يمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأن القرض - وإن كان الأصل في مشروعيته هو الإرفاق - قد يخرج عن هذا الأصل؛ فليس في جميع حالاته من باب الإرفاق، وليس الإرفاق شرطاً في صحته؛ بمعنى أن الإرفاق صفة غالبة على القرض لا مقيدة له، ويدل على هذا ما يلي:


(١) ينظر: بحوث في المصارف الإسلامية (ص٢٠١، ٢٠٢).
(٢) ينظر: المرجع نفسه (ص٢٠٣).
(٣) ينظر: أحكام الودائع المصرفية، محمد تقي العثماني (مجلة المجمع ٩/ ١/٧٩٤)، الربا والمعاملات المصرفية .. ، د. عمر المترك (ص٣٤٨)، مجلة المجمع ٩/ ١/٧٨٢ بحوث في المصارف الإسلامية (ص٢٠٤).
(٤) كشاف القناع (٣/ ٣١٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>