ذكرنا في المقال السابق أنه من الطرق الصحيحة لإحداث النسبة بين التصورات, العقل, باعتباره المجهود الذهني البشري الصرف, ويأتي ثانيًا بعده:"الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بنوعيه", فهما كما يحتويان على أوامر ونواهٍ إلهية يشتملان أيضًا مجموعة كبيرة جدًّا من التصديقات حسب اصطلاح المناطقة, وهي تقدّم للإنسان ما ينبغي أن يعتنقه من رؤًى يقينية للكون بعالَمَيه: الغيب والشهادة, وذلك بإعطاء أجوبة ربانية لجميع الأسئلة التي لا تزال عند مَن لا يملكون إيمانًا حقيقيًّا بالوحي تعبّر عن مشكلات بل معضلات فلسفية يسميها بعضهم الميتافيزيقا, تتحدث عن كل ما ليس مدركًا ماديًّا, ومنها الأسئلة الخمسة الشهيرة: مَن, وكيف, ومتى, ومن أين, ولماذا, وهي إشكالات عن الخلق وسر الوجود في هذه الحياة, موروثة عن فلاسفة اليونان شكّلت عصب الفلسفة القديمة والوسطى والحديثة, وإن كانت طبيعة النقاش الفلسفي المعتمد على طرح الأسئلة المستنبطة من أسئلة سابقة دون ارتباط السائل بحصوله على جواب مقنع عن السؤال الأول, أقول: إن طبيعة النقاش هذه, قد ساهمت وليست وحدها في أن تكون الفلسفة منطلقًا لكثير من العلوم النظرية والتجريبية كالرياضيات والطب وعلم النفس والجغرافيا والفيزياء والأحياء والميكانيكا, إلا أننا لا يمكن أن نعزو الفضل في ولادة هذه العلوم النافعة إلى الحيرة في أصل الكون والحياة كما يحب البعض أن يصوِّر لنا, بل الحقيقة أن تلك العلوم نشأت عن بيئة علمية مهيَّأة للتفكير, ولو أن تلك البيئة توقفت عند الإجابات الفطرية لإشكالات الكون والحياة لاستطاعت التقدّم بشكل أسرع بكثير في سبيل إنضاج تلك العلوم التي ظلَّت أكثر من ألف سنة متوقفةً عند شكلها النظري الذي تركها عليه كل من أبقراط وأرسطو وأرشميدس حتى انتقلت عند المسلمين نقلةً نوعية من العلم النظري إلى العلم التجريبي، ومن ثَم حقّقت في ظل الحضارة الغربية ما نراه اليوم من تقدّم نتيجة اشتراك العديد من العوامل المؤثرة والتي شكّلت المحرّك الرئيس لتسارعها.
وفي تقديري أن تباطؤ حركة الإبداع العلمي عند المسلمين رغم ابتكارهم للمنهج التجريبي كان من تأثير تعلق فلاسفتهم بالحيرة اليونانية وانشغالهم بمعالجة قضاياها في غفلة غير مبرّرة عن الهدي القرآني في حل تلك الإشكالات, بينما كان لتأثر آباء النهضة الحديثة - ديكارت وكانت - بالإجابات الإسلامية عما وراء الطبيعة دور كبير في تسارع التقدم الأوروبي، بالإضافة إلى عوامل كثيرة أخرى لعلها قد درست من قِبل متخصصين في تاريخ النهضة, وهنا أحب أن أنبه إلى أنني لا أملك معطيات علمية لتأثر ديكارت وكانت بالفكر الإسلامي سوى ما أجده بينهما وبينه من تقارب في بعض مسائل الألوهية ومصادر المعرفة, مع أنني أضع في الاعتبار كثيرًا أن يكون التقارب هو بتأثير من دواعي الفطرة التي أظن أن ديكارت وكانت كانا أول من أدخلاها - أي الفطرة - في الفكر الأوروبي.