للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنا أعرف جيداً لماذا خرجت قضية التوحيد والشرك من معاييركم، ولم تعد جزءاً من آلية القياس والتقييم لديكم؟ السبب بكل وضوح أنكم تشربتم "المفاهيم المادية الغربية"، ولذلك عجزتم عن قراءة منجزات التوحيد ومشكلة الشرك.

ويشبه هذا الأمر مافعلته قريش حين احتجت على النبي وأصحابه بكونها خير منه لأنها تقدم نفعاً مادياً للناس وهو (تموين الحجاج وبناء الحرم) فرد الله عليهم مبيناً أن نفع التوحيد أعظم من النفع المادي حتى لوكان للحجاج وفي الحرمين، كما قال تعالى (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) [التوبة:١٩].

ويشبه هذا أيضاً أنه لما استنكر بعض الناس زمن النبوة أموراً فعلها النبي وأصحابه وعدوهاً إرهاباً وقتلاً، فبين الله أن "الفتنة الدينية" أشد وأخطر من "القتل"، كما قال تعالى في موضعين (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة:١٩١] وقال تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة:٢١٧]. فجعل الفتنة في الدين أعظم من أمر الدماء، مما يدل على جعل العقيدة فوق المصالح المادية.

فانظر الى منزلة جنس التوحيد والعقيدة ونفعها، حتى جعلها الله فوق منزلة النفع المادي للناس، وفوق منزلة الأمن، ومع ذلك كله حين تتحدث الطوائف الفكرية عن المنجزات فإن آخر شئ تفكر فيه هو (منجز ترسيخ التوحيد ومقاومة الشركيات).

وقد شاهدت خارج المملكة أموراً عجيبة تدل على عظمة منجز الصحوة في نشر التوحيد، ذلك أنني أشاهد أحياناً شخصيات عربية فيها فضل وخير، لكنها نشأت في أجواء بعيدة عن الصحوة الإسلامية، ومع شدة تدين بعضهم وحرصهم على الخير إلا أنه يقع في قوادح خطيرة للتوحيد وهو لايعلم، ويجد من يناقشه صعوبة في توضيح الأمر له، وأقارن ذلك ببعض الشباب المبتعثين الذين ليس فيهم حرص على التدين، ولكن بسبب نشأتهم في أجواء الصحوة وانتفاعهم بجهودها في نشر التوحيد تجد لديهم حساسية شديدة منذ أن تقترب من حمى التوحيد وباب الألوهية.

بل إن بعض الناس يرى أن "الأخلاق المهنية" كالأمانة في العمل أهم من "التوحيد"! وهذا بسبب جهلهم بأعظم المطالب القرآنية، ولذلك يقول ابن مسعود فيما رواه الطبراني وابن أبي شيبة وابن حزم: (لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا).

قال ابوالعباس ابن تيمية في تعليق شهير على هذا الأثر (لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق) ..

فكم فات على هذه التيارات الفكرية معرفة منزلة "حسنة التوحيد" وأنها تفوق كل الحسنات التي يعرفونها ..

بث معاني التوحيد في الناس، وإصلاح قوادح التوحيد، منجز أعظم من مجلس العموم ووكالة ناسا وأبراج دبي .. لوكنا فعلاً ندرك مراتب الفضل في القرآن، ومحاب الله ومباغضه سبحانه وتعالى ..

وأذكر مرة أنني ذكرت لأحد هؤلاء الشباب المتأثرين بهذه المدراس الفكرية ظاهرة عقدية خطيرة انتشرت، وهي انتعاش ظاهرة "تعطيل الصفات الإلهية" ونشاط بعض الرموز في الدعوة إليها، وأن هناك بعض الفضلاء احتسبوا في إعداد بعض البحوث لإصلاحها، فقال لي (وافترض أنهم قضوا على كل المعطلة على وجه الأرض فمالفائدة من ذلك ونحن نرى الاستبداد السياسي؟!) أو كلاماً هذا معناه! فانظر كيف صارت قضايا تنزيه الله سبحانه وتعالى وتوقير صفاته جل وعلا قضية هامشية لا تعنيه، بسبب تشرب قلبه القيم والمفاهيم المادية الغربية ..

<<  <  ج: ص:  >  >>