وقد حذر علماء هذا الخطاب من فتنة العصرنة قبل ظهورها على المستوى المحلي بفترة طويلة من خلال تضمين نقد أفكارها في الرسائل الجامعية في مسائل الولاء والبراء والجهاد والإرجاء المعاصر والعلاقة مع الكفار والمذاهب الفكرية، والموقف من الفرق، ومفاهيم التجديد والتطوير وغيرها (يمكن الرجوع مثلا إلى بحوث العلمانية للحوالي، والولاء والبراء للقحطاني، وأهمية الجهاد للعلياني، والثبات والشمول للسفياني وغيرها كثير جدا, وهي كتب مطبوعة ومتداولة على أوسع نطاق)، وكذلك حذروا من هذه الفتنة من خلال دروس ومحاضرات كثيرة من أبرزها محاضرة الشيخ سفر الحوالي شافاه الله وعافاه: العلمانية في طورها الجديد، التي ذكر فها جملة كبيرة من الأفكار العلمانية لدى بعض الإسلاميين التنويريين: إما بسبب التخليط في مصادر التلقي والاستدلال أو بسبب روح الهزيمة التي تحصل لبعض النفوس الضعيفة أمام الآخر!!
وقراءة هذا الإنتاج الضخم (كتب ومقالات ومحاضرات ودروس وخطب ومجلات وبيانات وفعاليات مختلفة .... ) وتحليل أجزائه وآثاره يحتاج إلى جهد كبير وعمل طويل، وفيه جوانب في غاية الإشراق والوضاءة فضلا عن الأحداث والمواقف والحركة الاجتماعية التي هي أكبر وأغزر.
إن الإحصاء والاستقصاء للدور الايجابي لهذا الخطاب متعذر في مقالة مختصرة، ولكن من فكّر بنفس نظيفة هادئة مستقرة فإنه سيجد أضعاف ما تمت الإشارة إليه، والهدف إثارة التفكير في الموضوع والعناية به.
ومن الطبيعي أن يوجد في أي عمل بشري أخطاء وقصور لكن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ولم يؤثر فيه، ولا ينبغي أن يكون النقد هو الهاجس الوحيد مع الإعراض التام عن ايجابيات الفكر السلفي المعاصر التي هي بكل تأكيد أكثر وارسخ وهي الأصل الأصيل فيه، وأن الخطأ عند وجوده إنما يكون في الأفراد وليس في المجموع.
ويؤسفني جدا عندما أرى شبابا ممن يعتبرون أنفسهم من أهل هذا الخطاب ديدنهم ذكر المثالب والعيوب والنقد الدائم لمؤسساته وشيوخه وأفكاره مع ميل للطوائف والتيارات الفكرية المناوئة له، إن هذه النفسية التي تجعل من هؤلاء الإخوة يلتمسون المعاذير ويتفهمون لهذه الطوائف والتيارات أقوالهم ومواقفهم في الوقت الذي جعلوا من نقد الخطاب السلفي مشروعا لهم دون أي إشارة تذكر للايجابيات، هذه النفسية تدل على هوى متبع خفي يلبس لبوس النصح وإرادة الإصلاح، وتدعي أن النقد موجه إلى الخطاب وليس للمنهج مع أن المآل يوصل إلى نقد المنهج متذرعا بان المقصود هو الخطاب الزمني وليس المنهج المحكم الثابت.
إنني أتفهم أن يقوم طالب علم شرعي يعرف لإخوانه حقوقهم ويدافع عنهم، ويواجه الطوائف والتيارات الفكرية بما عندهم من الباطل ثم يقوم بتقويم خطأ وتسديد ثغرة وتصويب قول أو موقف فهذا بلا ريب أن دافعه النصيحة الواجبة. ولكنني لا يمكن أن أفهم من يصادق ويصاحب ويصافي إتباع التيارات الفكرية ويتلمس الأعذار ويجد نفرة وعدم ارتياح لإخوانه من دعاة أهل السنة والجماعة ومع ذلك يقول أنني أريد النصح والتقويم عندما أنتقد الخطاب السلفي!! هذا الركام والضجيج النقدي للخطاب السلفي لا ينبغي أن يشغل شيوخه وشبابه عن رسالتهم الربانية وهي تعبيد الناس لرب العالمين ونشر الدعوة والإصلاح في كل مكان، والاشتغال بالنافع من الأفكار وعدم الإصغاء للأفكار السلبية التشكيكية التي يرددها نقاد هذا الخطاب.