للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولن نستعرض تاريخهم القديم، وهل في الإمكان استعراض المحيط الزاخر؟ ولكننا نشير بإجمال إلى دورهم في ركوب موجة التوبة الجماعية التي نسميها - ولو على سبيل التفاؤل - "الصحوة الإسلامية"!!

لقد أراد كل كمين من هذه السبل المتفرقة التي نهى الله عن أتباعها أن يستغل بواكير هذه الصحوة، ويستغفل شبابها الغض، فيلقي عليهم ثوب بدعته، ويقنعهم بقناع مذهبه حتى تصبح الأمة العائدة - وهي التي أراد الله لها، ونريد لها أن تكون أمة واحدة على المنهج الأبلج النقي - تصبح شيعاً وأحزاباً، كما كان حالها أيام الزحف التتري أو الصليبي.

فأحدهم "صوفي" لا يعرف من التدين إلا الطبل والمزمار، والحضرة والتواجد ... يندس في الصفوف العائدة رافعاً راية التصوف، - أو خرقته -، ساعياً بأقصى جهده إلى تصويف المسيرة كلها.

وذاك رافضي خبيث يتقمص شخصية الدجال تحت عمامة المجدد، ويلوّح للجموح الباحثة عن الطريق: أن تعالوا إلى الإسلام، وما غايته إلا ترفيض القافلة بأجمعها.

وذلك مستشرق عربي! غذّاه المستشرقون الغربيون بما استطاعت عقولهم الضحلة أن تلتقطه من فتات أفكار الفرق البائدة، وأظهروا أمامه التباكي على تراثها الإسلامي المفقود، وكنوزه الضائعة، واستحثوه أن يشتغل بالتنقيب عنها ونشرها (١)، فجاء المخدوع أو المتآمر ينبش رميم الباطنية والحلولية، وينفض الغبار عن هرطقة الفلاسفة والمعتزلة، ويحقق كتب البدع والفرقة، تحت ستار إحياء التراث والتحقيق العلمي النزيه .. وما الغرض إلا تمزيق طريق العودة، وتشتيته ذات اليمين وذات الشمال، وإذكاء القروح الميتة في كبد الأمة الجريحة، وأقل ما فيه صرف النظر عن الكنوز الحقيقية التي ليست مجرد تراث!! بل هي منبع الحياة الفكرية، ومعالم على طريق المنهج القويم. وجاءت سبل وطوائف أخرى ... وتكدست في المكتبة الإسلامية.

وفي أخطر ركن فيها - وهو ركن العقيدة - صحائف سود، لا أعني سواد مدادها ولكن سواد فكرها، واستشرت ظلمات بدعتها حتى ظهرت على صفحات المجلات والجرائد، فأخرجوها من دوائر المتخصصين إلى متناول العوام المساكين.

وهذه الكتب والمقالات قد تبدوا للناظر أولّ وهلة وكأنها هي مجرد امتداد للفرق المنحرفة القديمة، ولا دافع لها إلاّ التعصب لتلك الفرق والمذاهب. والواقع أن وراء تلك الأكمة ما وراءها، وأن هذه النظرة إن صدقت على بعضهم لا تصدق على كلهم، فهي لا تهدف للتعصب للماضي بقدر ما هي تخطط وتبرمج للمستقبل، مستغلة سذاجة غالب شباب الصحوة كما أسلفنا.

ومن الأدلة على ذلك: ما يفتعله أصحاب هذا الاتجاه البدعي المقنع حين ينشرون أفكارهم وكتبهم على الملأ، ويحثون الشباب على قراءتها، ثم لا يفوتهم أن يقرنوا ذلك بالتباكي على ما تعيشه أمة الإسلام من تفرق وتمزق، وأنها ما تزال تبحث مسألة "أين الله؟ "، ومسألة "القرآن مخلوق أم قديم؟ "، و "قضايا الفلاسفة والمعتزلة والصوفية والأشاعرة ... إلخ".

في حين أن العدو يحتل أراضيها ويهدد كيانها، ولا يفرق بين أحد منها، فهلا انصرف المسلمون لمحاربة الشيوعية، ومقاومة الخطط الصهيونية، وتركوا هذه الخلافات.

يتباكون على هذا، وهم يقدمون للشباب مؤلفات كلها تفلسف وتجهّم واعتزال وتصوف وتشعر ... إلخ.


(١) انظر على سبيل المثال: تقديم المستشرق "ألفرد جيوم" لكتاب المعتزلة لزهدي جار الله، وكلام المستشرق "اربري" في مقدمة كتاب التوحيد لأبي منصور الماتريدي، تحقيق فتح الله خليفة. أما جهد "ماسينيون" و"نيكلسون" لإحياء الفكر الصوفي، وما بذله تلامذتهم الشرقيون، فلا تحتاج إلى تمثيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>