للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهو في حقيقته عقوبة جرى بها القدر المحكم، تحقيقا لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} *الأنعام: ٦٥*.

على ما فسرتها به الأحاديث الصحيحة (١)، ولله في ذلك الحكمة البالغة، وما أصاب المسلمين عامة من مصيبة فبما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، وليس بخارج عن سنة الله أن يبتليهم بما لم يبتل به أمم الكفر، أو يذيقهم من البأس ما لم يذقها.

وليس عجيباً في سنة الله أن يأتي عصر يقل فيه أهل السنة والجماعة ويستضعفون، ويعلو فيه أهل البدعة والفرقة ويسيطرون، فهذا أيضاً من الابتلاء - ابتلاء التمحيص والرفع - الذي هو سنة الله في الأنبياء من قبل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} *الفرقان: ٣١*.

{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} *الأنعام: ٥٣*.

ولكن العجب المستنكر أن تطغى البدع حتى يبلغ من جرأة أصحابها أن يدعوا أنهم هم أهل السنة والجماعة، وأن أهل السنة والجماعة هم أهل الضلالة والفرقة!

أو يضيع الحق بين تفريط أهل السنة والجماعة، وتلبيس أهل الضلالة والفرقة؛ فيقال: إن هؤلاء من هؤلاء، وأن الفرقتين سواء - دون نكير ولا اعتراض -.

فهذا - حسب التشبيه المأثور في حال أهل السنة بين أهل الإسلام - مثلما لو ادعى عدو للإسلام أن أهل الإسلام بين أهل الأديان قليل؛ كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ورتب على هذا أنهم شذّاذ لا اعتداد بخلافهم، ولا اعتبار لدينهم الذي خالفوا به سائر أمم الأرض.

فهذا ادعاء لا يستحق كبير اهتمام، ولا يبعث كثير عجب، ولكن لو ادعى هذا العدو أن اليهود والنصارى هم المسلمون المتمسكون بما كان عليه الأنبياء جميعاً، وأنهم هم الأمة المصطفاة التي أورثها الله الكتاب، وأن المسلمين هم المخالفون لمنهج الأنبياء، وهم أولى أن يسموا بكل اسم سمي به أعداء الأنبياء ومخالفوهم، وسماهم هذا العدو "المشركين أو الصابئين" (٢)، أو نحو ذلك.

فهذا ما لا يملك أي مسلم يعرف حقيقة دينه أن يسكت عليه؛ لأنه قلب للحقائق، ومكابرة للعقول، ولو شاع مثل هذا الادعاء وسكت عليه المسلمون أو أقروه - كلهم أو بعضهم - حتى أصبح مصطلح "المشركين" أو "الصابئين" يعنيهم عند الإطلاق، ومصطلح "المسلمين" يعني اليهود أو النصارى أو المشركين ... لكان هذا خرقاً فظيعاً لما استقرت عليه الأفهام، وأجمعت عليه العقول، وتعارف عليه التاريخ المتواتر.

والمؤلم حقاً أن هذا الذي لا يصدقه العقل بالنسبة للإسلام مع الملل قد أصبح - إلى حد ما - حقيقة واقعة بالنسبة لأهل السنة والجماعة مع الفِرَق!

وقد يكون سبب ذلك أن بعض أهل السنة والجماعة لا يعرفون المضمون الكامل، والمنهج الشامل الذي يحويه مدلول "أهل السنة والجماعة"، ولا يدركون حقيقة مناهج الفرق البدعية وأصولها، ومن ثَمَّ كانت الخسارة الكبرى لأهل السنة والجماعة، لا أعني خسارة الأتباع، ولكن اضمحلال الشعار، وضياع الحقيقة في ركام الزيف، وفقدان المنهج المتميز في زحمة المناهج.

وقد ركب الله تعالى في نفوس بني آدم كافة من معرفة العدل ما ينكرون به أن يتقمص اللص شخص الحارس، وأن ينتحل الفاجر شخصية التقي، وأن يدعي الشيطان حقيقة الملك.


(١) وهي أحاديث كثيرة، جمعها الحافظ ابن كثير رحمه الله، انظر: الطبعة المحققة من تفسيره (٣/ ٢٦٤ - ٢٧٢).
(٢) كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه "الصباة".

<<  <  ج: ص:  >  >>